د. حمزة السالم
قد كان في الصحابة رضوان الله عليهم تفاوت عظيم في الثراء فمنهم من هو شديد الثراء كعثمان -رضي الله عنه -الذي كان يتصدق بجزء من ماله كقافلة تجارية كاملة وقادر على تجهيز جيشا في عسرة من الزمن بينما كان أهل الصفة -رضي الله عنهم- في حال من الفقر يلتصق بعضهم ببعض لتغطية عوراتهم، لا يجدون قطعة من قماش أو جلد يسترونها به.
وكان عليه الصلاة والسلام يهب المئة من الأبل والوادي من الغنم لأثرياء القوم وساداتهم دون فقرائهم وضعفائهم.
لذا لا يصلح الانجراف وراء العواطف التي تغذيها الغيرة أحيانا والسياسيون أو المصالح أحيانا أخرى عند النظر في التوزيع العادل للثروات، بل يجب النظر إلى الأسباب الاقتصادية والتنظيمية التي أوجدت هذا التفاوت الواسع وما هي نتائجه على المجتمع سلبا أو إيجابا.
وفي ردود فعل عاطفية أو سياسية، او إعلامية، أو شعبوية، يستنكر الناس في أنحاء العالم تعاظم ثروات الأغنياء واستئثار ملكيتهم لغالب ثروات بلادهم على ضآلة نسبة عددهم في مجتمعهم، التي قد لا تتجاوز 1% في بعض الدول. فهل لهذا الاستنكار أرضية اقتصادية علمية صحيحة؟ الجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف المجتمع الاقتصادي الذي هو محل النظر. فالمُستنكر الممقوت شرعا واقتصاد هو وجود طبقة الأغنياء التي تعطل استغلال الموارد باحتكارها دون تشغيلها في الاقتصاد. وكذلك الثراء من غير بذل جهد حقيقي، كفساد ونحوه، لان هذا يقتل روح المنافسة الايجابية ويحي روح المنافسة السلبية، فيدمر الاقتصاديات والمجتمعات.
التفاوت في الثروات بحيث يمتلك النسبة الأقل من الناس للنسبة الأعظم من الثروات هو أمر جوهري لنمو لاقتصاد صناعي متطور. وذلك لانخفاض كلفة الإنتاج مع عظم حجم المنظمة. ولهذا نرى الاندماجيات في كيانات أكبر. وبهذا ربح بل قيت قضية الاحتكار ضده، حين أثبت أن شركته لن تستطيع التقدم في الإنتاج والتطوير إذا تم تفكيكها.
كما أنه أمر ضروري لرخاء المجتمع كله في ظل نظام ضريبي تصاعدي (أي تزداد الضريبة مع زيادة الثراء). فالأغنياء في المجتمع الصناعي المتطور هم في الواقع مجرد مدير مطور لإنتاجية المجتمع. فالغني يعمل جاهدا لزيادة الإنتاج وتحسينه من أجل زيادة أرباحه، التي سيعيد استثمارها في الإنتاج فيزيد الانتاج ويطوره فيزيد من توظيف الناس وتزداد رفاهية الناس باستطاعة العمل والتعلم والاستهلاك للمنتجات المتكاثرة المتطورة.
والأغنياء في هذا المجتمع -إذا كان ديمقراطيا- محدودو التصرف بأموالهم بمحدودية إنسانيتهم الفردية في المأكل والمشرب والمسكن. فهو مهما بذخ في الحاجيات الإنسانية فيظل إنفاقه تافها بالنسبة لممتلكاته ودوره الذي يقوم في به في بناء الاقتصاد.
وأغنياء هذا المجتمع لا يستطيعون البذخ الاحتكاري الذي يعطل به الموارد الاقتصادية، كأن يمتلك عشرات المنازل أو المزارع أو الأراضي شاسعة لمجرد التنعم بالملكية دون استغلالها الشخصي أو دون استغلالها الإنتاجي. فالضرائب التصاعدية التي قد تصل إلى 70% على الدخل والممتلكات الزائدة عن الحاجة والمترفة تردعه عن ذلك.
والأغنياء في هذه المجتمعات هم غالب مصدر دخل الدولة الذي تنفقه على المجتمع. وتزداد (تصل عليهم إلى 70% من الفدرالي والولاية والمدينة). والقاعدة أنه كلما استفاد المواطن من خدمات الدولة، ومن المجتمع. كالممثلين والمشاهير وكشركات التنقيب والمعادن والنفط أو من يتحصل على ثروة دون جهد منه كالفائز بالقمار أو ميراث أو العاثر على كنز ونحوه.
وواقع اليوم يشهد لهذا. ففي المجتمع الصناعي الديمقراطي، يزداد الأثرياء ثراء دون بقية أفراد المجتمع. وكذلك، فأفراد المجتمع قد ازدادت مستويات الرفاهية المعيشية الذي يعيشها. كما ازداد امتلاكه لمنتجات لم تكن متوفرة من قبل، والتي ما كان لها أن تتوفر لولا ثروات الأغنياء الإنتاجية. فمن يموت جوعا في العالم اليوم؟ بينما بالأمس القريب كان يموت في شوارع لندن افارد من الطبقة الغالبة في المجتمع.
لذا لا وجود مستند للتباكي عن اتساع الفجوة، فالأثرياء المنتجون، في النظام الحر، لم ينتزعوا ثرواتهم من المجتمع بل هم من خلقها، وأغنى المجتمع بخلقها. وعلى النقيض، فالاشتراكية مثل واضح، كذلك، فهي لم تضيق الفجوة بل ألغتها بإفقار الغني والفقير. ورمت بروسيا في قعر الفقر، بعد أن كانت وشعبها أغنى من الأمريكان بفارق هائل، وها قد انعكس الأمر. والمُشاهد أن الفارق في الثراء للدول والشعوب بين روسيا وأمريكا، يزداد اتساعا لصالح الأمريكان مع الزمن كلما ازداد اتساع الفجوة بين أثرياء أمريكا وطبقتها الوسطى.