لقد أصبح إنسان اليوم، وللأسف، مخلوقاً عدوانياً يعيش في جو اصطناعي رطب مكيف، صيفاً وشتاء ويأكل مركبات اصطناعية ويشرب محاليل ملونة أذيبت فيها مواد كيميائية، وتستقبل حواسه إشارات مسمّمة تتحكم في سلوكياته وتطوّع فكره وفقاً لمخططات أغلبها شيطاني خبيث.
لقد أصبح تلوث البيئة حقيقة واقعة يلمسها كل مَن يعقل ما حوله، وتعاني منها حتى العجماوات، ولكن بعض الناس قد لا يدرك مدى خطورتها، لأن أثرها يتراكم ببطء، والناس عموماً لا تشعر إلا بالتغيّر الحاد المباشر.
فأمسى موضوع البيئة وتلوثها والأخطار الناجمة عن ذلك في مقدمة القضايا التي تشغل فكر العقلاء، وقليل ما هم في هذا الزمان.
إن تلوث البيئة في عصرنا هذا يعتبر مشكلة عديدة الأبعاد، ومعالجتها لم تعد تحتمل التأجيل، لأنها باهظة التكاليف، وتمثّل خطورة كبيرة على صحة الإنسان، وعلى مستقبل الإنسانية والأحياء على ظهر الأرض.
فقد بدأت آثاره تتراكم على الصحة العامة، والاقتصاد العام وأفرز نتيجة ذلك مجموعة من التأثيرات السلبية الضارة جسدياً ونفسياً واجتماعياً واقتصادياً وجغرافياً، على المستوى الوطني وكذلك على مستوى العالم، كله شماله وجنوبه، غنيه وفقيره. مما قد يعني إقدام البشرية على الانتحار البطيء وذلك نتيجة التطور الصناعي المتسارع بلا ضوابط منذ تصاعد الأنشطة الصناعية في القرن التاسع عشر، لأن المال أصبح الهدف الذي تتصارع عليه وحوش الغابة.
ومن ثم، فقد أصبح التلوث يُحمّل الناس بتكاليف عديدة، ليس من أجل إشباع الحاجات، ولكن من أجل تخفيف المعاناة وتحجيم المشكلة وأضرارها.
وقد وصل التلوث إلى باطن الأرض فتلوثت الآبار والعيون، ووصل التلوث إلى الفضاء الخارجي، ويجري الآن التفكير في جعل الفضاء مكبا للنفايات والمخلفات.
فلا غرابة أن نسمع بين الفينة والأخرى عن تلوث الهواء والماء والغذاء. وكذا التلوث الإشعاعي والأيدي الملوثة، والأموال الملوثة، والحمى الكونية والأدوية المغشوشة، والأمطار الحمضية، وثقب الأوزون والاختلاسات والخلل الاجتماعي والتلوث الأخلاقي والإيدز الاقتصادي.
إن التكتيكات السياسية والمصالح الإقليمية والمزايدات الانتخابية والأنانية، أعمق أثراً في وجدان أصحاب القرار من قضية التلوث.
ولذا، كانت النتيجة مخيبة لآمال عملاء وخبراء البيئة وأثارت ردود فعل غاضبة لدى الجماعات المهتمة بقضايا حماية البيئة، وعلى أيّ الأحوال فخطورة القضية لا يمكن تجاهلها.
ولو نظرنا للمشكلة من زاوية أخرى، نجد أن العديد من الأنشطة يجب إعادة النظر فيها.
فالقاعدة الفقهية تقول: « إن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة».
وحين يتجاهل الأنانيون هذه القاعدة، فلا يجوز لأولي الأمر وأصحاب القرار أن يغفلوا عن تطبيقها، من أجل الصالح العام.
إن جريمة التلوث يجب أن تتوازى في الفهم العام مع جرائم القتل والفساد والسرقة.
ومن ثم، فإن المسؤولية التنويرية تقع اليوم على الجامعات ودور العلم ومراكز البحث ومختلف وسائل التثقيف والتربية وتشكيل العقول وصياغة الفكر!!!...