الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
حياة المسلم كلها مستمدّة من الشريعة، وحتى لا يتعطل هذا التكليف أوكل الله استخراج الأحكام العملية من الأدلة الشرعية «لفقهاء الإسلام»، ومن درات الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، وهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
ومع أنَّ المصادر التي يستقي منها الجميع واحدة، إلا أنَّ قضايا المرأة المسلمة محل خلاف دائم بين علماء ودعاة الإسلام.
«الجزيرة» استطلعت آراء عدد من المتخصصات في العلوم الشرعية لمعرفة أسباب ذلك، وكانت المحصلة كالتالي:
الخلاف الفقهي
بدايةً تؤكّد د. سارة ملتع نايف القحطاني أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الكويت أنّ الخلاف في قضايا الأمة عموماً جار، وقضايا المرأة المسلمة جزء من قضايا الأمة، فالخلاف فيها أيضاً جار، إلا أن الخلاف فيها منها ما هو معتبر وسائغ ومقبول ومنها ما لا يسوغ فيه الخلاف ولا يعتبر. وهذه النقطة غاية في الأهمية يجدر التنبه لها، فليس كل خلاف في قضايا المرأة المسلمة معتبراً وسائغاً ومقبولاً، وما كان منها غير مقبول ولا معتبر لا يجدر الكلام فيه ولابد من السعي لإزالته وإزالة أسبابهولو أردنا أن نحصر أسباب الخلاف المعتبر - على الرغم من وحدة المصدر - لرجع الخلاف فيها إلى سببين رئيسين يتفرع عنهما باقي الأسباب، هما:
1 - الاحتمال الوارد في معظم النصوص الشرعية التي ورد به التكليف سواء من جهة الثبوت أو من جهة الدلالة أو من جهتهما معاً.
2 - اختلاف مدارك المجتهدين وأفهامهم في التقديرات والأحكام، سواء فيما سكت الشرع عن حكمه أو فيما لا قاطع فيه مما نطق به.
فمن أسباب الخلاف ما يكون عائداً إلى توثيق النصوص وضبطها، أو دلالات الألفاظ وتحديد مراتبها أو إلى اعتبار المصادر التشريعية وقواعد التفسير وتقريرها، أو إلى تقدير المقاصد واعتبار المآلات ومراعاتها أو إلى مجالات التطبيق وتحقيق المناط مما يختلف الأمر فيه باختلاف الفهم والإدراك والتصور، أو إلى غير ذلك مما تتطلبه عملية الاستنباط من مناهج وأصول.
قيود المذلة والهوان
وتقول د. إيناس الغرايبة أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة حائل: هناك بعض المسائل المتعلقة بالمرأة اختلف فيها العلماء ويرجع اختلافهم إلى أسباب كثيرة منها:
1 - الاختلاف في القراءات: مثل وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ، وفي قراءة أخرى «حتى يطّهرن».
2 - عدم الإطلاع على الحديث: مثل سيدنا عمر بن الخطاب لم يكن يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها، حتى جاءه الحديث الذي يجيز ذلك.
3 - الاشتراك في اللفظ: مثل المطلقة الحائض هل تعتد بالحيض أو الطهر، اختلفوا في معنى (القرء) {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}.
4 - تعارض الأدلة: مثل أقل ما يصح مهراً بالنكاح.
5 - عدم وجود نص في المسألة: مثل تأبيد حرمة الزواج بمن دخل بها وهي في عدة الطلاق من غيره، عمر بن الخطاب يرى التأبيد، وعلي بن أبي طالب يرى أنه إذا انقضت عدتها من الأول تزوجها الآخر إن شاء.
6 - الاختلاف في القواعد الأصولية اللغوية: كاختلافهم في بعض المعاني الثابتة بإشارة النص، أو بمفهوم المخالفة، أو في حمل المطلق على المقيد، أو في تخصيص عام النص.
فكما نرى أن هذا الاختلاف ليس جوهرياً، ولا يمس بالأصول بل بالفروع، فكل واحد أفتى بما أدى إليه اجتهاده بناء على أصول وقواعد التزمها في الاجتهاد.وأرى أن الاختلاف بين العلماء له دور في حل المشكلات التي تواكب هذا العصر .
معضلة الخلاف
وتبيّن د. سوسن عبدالكريم بونقيشة أستاذ مساعد بجامعة حائل أنّ زماننا اتسم بكثرة الخلاف بين العلماء ودعاة الإسلام حول جملة من القضايا، ومن بينها قضايا المرأة المسلمة، وذلك لأسباب عدة، من بينها التجرؤ على الفتوى من فاقدي الأهلية الذين لا تتوفر فيهم شروط المجتهد كما بينها علماء الإسلام في مصنفاتهم.
وللأسف تجد هذه القضايا من يزيد من تأجيج لهيبها فيفتي فيها وهو مدرك لما في نفس المرأة من رواسب استعمارية وما في خاطرها من ثورة على واقع سلبت فيه حقوقها حيث ابتعد المسلمون عن أخلاق الإسلام، وهنا نقف على سبب مهم في نشأة معضلة الخلاف بين العلماء ودعاة الإسلام حول قضايا المرأة المسلمة، ألا وهو التوجهات الفكرية الحداثية أو التنويرية كما يلقبها البعض، أو التقدمية التي لونت الفتيا وجعلتها أداة تلفيق بين قيم الغرب الملحد والقيم الإسلامية، ولقد نجحت أبواق هؤلاء في السيطرة على قلوب حاضنة الأجيال فلونوها بألوانهم وفتنوها بمقولاتهم الزائفة، إنهم أشد شراسة من غيرهم، لقد طالت مخالبهم بيوت المسلمين بدعوى مشروع تجديد العقل الديني تارة ونقد الموروث الثقافي الإسلامي تارة أخرى، ولقد تباينت الفتاوى في القضايا نفسها في مناسبات عديدة نسب فيها البعض ذلك إلى اعتبار تغير الزمان والمكان في الفتوى والاستجابة إلى روح العصر، فوصل الأمر بهم إلى الإفتاء في المسائل التي ليست محلاً للاجتهاد أصلاً، فالفتوى اليوم بحر تلتطم أمواجه يقمع فيه صوت الحق لأنه يهدد مصالح وأجندات فئات معينة ولا يروق لآخرين ويضع البعض الآخر في حرج (...) فيهاجم الحق وينعت كل من صدع صوته به بجملة من النعوت التي تنتمي في الغالب إلى قاموس العلمانيين.
المرأة المسلمة
وتشير د. خيرية بنت محمد الملق أستاذ الفقه وأصوله المشارك في جامعة حائل أنّه لا خلاف في أن الشريعة الإسلامية جاءت لرعاية المصالح ودفع المفاسد، والشريعة تنتظم كل شيء بدءاً من تحديد ملامح الهوية والمرجعية للأمة باختلاف أحوالها، فضلاً عما تشتمل عليه من عقائد، وقيم، وأخلاق، وأحكام عملية في مجال العبادات والمعاملات وتنظيم العلاقات بين الأفراد وما لهم وعليهم من حقوق وواجبات وحل قضاياهم، وتحتل قضايا المرأة أهمية بالغة لدى العلماء والدعاة نظراً لوجود واقع تحوّلي ينتظر المرأة المسلمة والمستجدات المتلاحقة التي تعكس الواقع بإشكالاته ممّا اقتضى رؤية فقهية جديدة تحقق الموازنة بين أحكام الشرع ومتطلّبات الواقع المعاصر، على نحوٍ يجعلها تمارس دورها بفاعليه بإطار شرعي مرن وفق الواقع..
جاء الإسلام ولم يورد حقوق المرأة بشكل عموميات مبهمة وإنما فصل تلك الحقوق.. وبين الكثير من الواجبات باعتبارها مشاركة للرجل في مجالات الحياة التي تتفق وطبيعتها..
فالمرأة هي النصف الآخر في المجتمع والذي من دونه لا تتصور حياة له، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما النساء شقائق الرجال، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم».
لم يترك الإسلام المرأة قابعة تحت مظلة القهر والتشنيع كما كانت قبل نزول تشريعات الإسلام الخالدة.
قضية مستقلة
وتوضح الأستاذة ملاك بنت إبراهيم الجهني باحثة في الخطاب النسوي والمحاضرة في قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام أنّ الاختلاف في المسائل المتصلة بالمرأة ليس جديداً ولا خارجاً عن دائرة المسائل الخلافية في الشريعة، والتساؤل حول سبب الاختلاف في مسائل المرأة رغم وحدة المصادر يجري على مسائل المرأة كما يجري على غيرها من المسائل الخلافية ولا فرق.
لكن الجديد برأيي هو التعامل مع المسائل الخلافية المتصلة بالمرأة باعتبارها تمثل قضية مستقلة. والأصل أن الرؤية الإسلامية لا تعزل قضايا المرأة عن قضايا المجتمع ولا تضفي الطابع الفردي على قضاياها.
وبالعودة للخطاب القرآني نلحظ توجه الخطاب القرآني للمرأة بوصفها إنسانًا قبل كونها جنسًا له صفات تميزه، إذ تكرر مصطلح الإنسان في القرآن 70 مرة، ومصطلح ابن آدم 25 مرة، في حين تكرر مصطلح المرأة في القرآن 26 مرة، ومصطلح النساء 59 مرة، فتبين بهذا أن القرآن توجه إلى المرأة بوصفها إنسانًا في أكثر من 95 موضعًا، بينما خصها بالخطاب بوصفها امرأة في 85 موضعًا.
والتوجه للمرأة بوصفها إنسانًا لا يعني إضفاء الطابع الفردي على قضاياها، ولا يقضي عليها بالعيش في صراع الأنداد في علاقتها مع شقيقها الرجل، وهنا يفترق التصور الإسلامي عن التصور الغربي.
فالمتتبع لتاريخ الأفكار يدرك تماماً أن قضايا المرأة لم تبرز بوصفها قضايا مستقلة قبل الاحتكاك الحضاري بالحضارة الغربية الحديثة.
واختلاف السياق الحضاري الذي أشرنا إليه خرج بالمسائل المتعلقة بالمرأة إلى حيز الاختلاف الشرعي المحض، إلى ساحة الاختلاف الحضاري وما يصحبه من هيمنة حضارية ومحاولات مواكبة وتوفيق للتكيف مع ثقافة المهيمن من جهة، ومحاولات مقاومة ودفاع عن الهوية من جهة أخرى. الأمر الذي حدا بالعلماء والدعاة إلى اتخاذ مسارات متنوعة ومختلفة في التعاطي مع قضاياها، ومن أبرز الأمثلة على هذا ما نلحظه في التفاسير المعاصرة للقرآن، فالدارس لتفسير أضواء البيان -مثلاً- يلحظ أن المفسر - رحمه الله - كان مهموماً بمدافعة المفهوم الغربي للمساواة بين الجنسين بإبراز أوجه التفاوت بينهما، بينما يلحظ الدارس لتفسير التحرير والتنوير اهتمام المفسر - رحمه الله - بالتفرقة بين نوعين من المساواة بين الجنسين، وهما مساواة المماثلة في كل الأحوال ومساواة المماثلة في الحقوق، فينفي الأولى ويثبت الثانية، ويبين الحكمة من التفاوت بين الجنسين، وهذه الاستفاضة في البيان والتمييز واختلاف مسالك المعالجة التي نلحظها في تفاسير المعاصرين لم تكن بهذا الحضور البارز في التفاسير القديمة ولم تحتل المساحة التي احتلتها في التفاسير المعاصرة، الأمر الذي يشهد لتأثير السياق الحضاري في قضايا المرأة طرحاً ومعالجة.