كوثر الأربش
ركيزتان استندت إليهما إيران لاختراق العراق، بسببهما أعلن حزب الدعوة الإسلامي في السبعينيات الميلادية ولاءه لقيادة إيران المتمثلة بالسيد الخميني إبان انتصار الثورة: إشعال نيران الطائفية، وشيطنة حكام الخليج. الأولى بلغت من القوة وشدة الأثر ما يجعلنا نجني ويلاتها حتى الساعة. نجح نظام الولي الفقيه في إزاحة القومية العربية وفرض الهوية الطائفية بدلاً منها، وكان إحدى ثمراتها آنذاك سقوط عرب عراقيين قتلى برصاص أفراد عراقيين أيضًا، ولكنهم موالون للولي الفقيه. حدث هذا بعد أن أعلن حزب الدعوة أن الخميني هو القائد الإسلامي الذي يحمل كل مسلم بيعته على عنقه. الثاني: عمدت السياسة الإيرانية لاستخدام كل أسلحتها الإعلامية لشيطنة حكام الخليج، سواء الإعلام المرئي، أو المقروء آنذاك؛ فنشأت فجوة ضخمة بين الشيعة والسلطة السياسية في مجمل دول الخليج؛ نتج منها كثير من الأحداث، لا يسع ذكرها الآن.. المهم، إن إيران نجحت، وتمكنت من فرض هيمنتها على الشيعة العرب، وتقليص شأن الحوزات النجفية، مقابل تصاعد باهر لنظيرتها في مدينة قم الإيرانية. كما أن المرجعية (أعلى سلطة دينية) أصبحت إيرانية، أو لرجل دين مولود في إيران، أو تخرج من حوزات قم. الخلاصة: إنها فرضت هيمنتها على قلب المجموع الشيعي حين استولت على «المرجعية». إلى هنا أنتهي من مراجعة التاريخ، وما حدث في السبعينيات الميلادية.
قبل بضعة أيام كان السيد مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، في الرياض، وذلك في زيارة تنبئ بعودة العراق للحضن العربي. فهل ينجح الصدر في تسوية الأمور، وتعديل مسار الاختطاف الفارسي للعراق؟
ما يحدث في العراق أشبه بالكارثة، ليست على الصعيد التنموي فحسب، بل على الصعيد الفكري. استغلت سياسة إيران تعطُّش العراقيين لطقوسهم الذي تم حظر بعض منها في عهد حكومة صدام حسين. مثلاً: مسيرات النجف لكربلاء عام 1975، التي يطلق عليها «مراد الراس»؛ ما جعل معظم العراقيين يقدمون الكثير من التنازلات التنموية والمعيشية في مقابل الحرية الدينية التي انفتحت أمامهم كالمطر بعد سنين عجاف. هذه هي نقطة الانطلاق. وهنا لا بد أن يعمل مقتدى الصدر إذا أراد أن يعمل على استراتيجية لتصحيح المسار السياسي للعراق. عليه أولاً أن يركز على التنمية، على توعية العراقي البسيط بحاجاته، البسيط الذي يشعر بأنه يجاهد لله بالتضحية بأموره المعيشية الأساسية في مقابل ممارسة طقس ديني. سوف ينجح؛ لأن الحكومة العراقية ترتكب خطأ فادحًا حين تعمل بآليات الثورة الإيرانية نفسها. تستخدم الخطط البالية نفسها: إشعال الطائفية، وشيطنة حكام الخليج. كانت تلك وصفة ناجعة في حينها. اليوم قد تنجح مرحليًّا، لكن فشلها مؤكد، لو واجهتها قوة عراقية من الداخل تعمل بعقلية العصر. المعركة الأيديولوجية من أصعب المعارك. كل سلاح ستستخدمه تمتلك في حوزتها مضادًّا له: إن صرخت بالتنمية وحاجات الناس سيردون بالزهد، وستكون أنت دنيويًّا، غرتك الحياة. لكن في النهاية حاجات الناس الأساسية تنتصر.. الجائع والمريض والمشرد هؤلاء قوة تنفجر دائمًا في كل ثورات العالم. «وكل عام - حين يعشب الثرى - نجوع ** ما مر عام والعراق ليس فيه جوع». رحم الله السياب حين قال قوله العابر لكل الأزمان ذاك. غير أن الأنفة العربية تم تغبيشها، ونحن بانتظار من يزيح الغبش.. مَن يعيد للعراقي العربي شعوره بأنه يتم طحنه من أجل مصالح سياسية قذرة. ليست المشكلة في أن تكون فقيرًا، محتاجًا، مشردًا.. لكن المشكلة الأعظم أنك لا تشعر بالتعاسة؛ لأنك كذلك، بل تطمئن بأنك فدائي في الطريق لله. هنا تكمن ويلات الأيديولوجيا.. على مقتدى الصدر أن يستعيد العقول أولاً قبل أي مسعى لاستعادة العراق. من هنا ستكون نقطة الانطلاق الأولى. الثانية: ستأتي تباعًا، إعادة الهيبة للمرجعيات العربية الشيعية. لنتوقف لحظة هنا، إذا أردت أن تضحك كما لو أنك تبكي خذ جولة في برامج التواصل الاجتماعي. انظر بماذا يشتمنا بعض العراقيين. إنهم يشتموننا بعروبتنا! توقف، هذا وحده كافٍ لتعرف حجم التلوث الفكري الذي تنشره إيران. على مقتدى الصدأن يكثف جهوده هنا أيضًا. الطائفية والشعوبية الفارسية ستكونان تحديًا كبيرًا أمامه، أمام أي قائد عربي، يحلم بإنعاش ذاكرة العراق العربية.