عبدالعزيز القاضي
احمس ثلاثٍ يا نديمي على ساق
ريحه على جمر الغضا يفضح السوق
- محمد العبدالله القاضي
تحدثت في الحلقة السابقة حول ورود قصيدة القهوة للقاضي في مؤلف مصري مطبوع عام 1314هـ. وفي هذه السياحة أتناول قضية أخرى، أثارتها تغريدة في تويتر، نشرها حساب (الوثيقة), تقول:
«حفيد الشاعر الكبير (محمد العبدالله القاضي) ينفي نسبة (قصيدة القهوة) الشهيرة لجده. المصدر/ روضة الناظرين ج2 ص403».
ومرفق بالتغريدة صورة من قصاصة من كتاب العم محمد العثمان القاضي - أطال الله عمره -, جاء فيها: «ويقول حفيده العم محمد البراهيم القاضي المتوفى في آخر جمادى الآخرة عام 1392هـ، وهو شاعر ونسابة، وعنده - رحمه الله - قوة في الحفظ، وعنده اطلاع في الأدب والتاريخ, يقول إن كثيرًا مما ينسبه الناس للجد محمد ليس له، إما لأبنائه أو لغيرهم، ومن ذلك القصيدة في القهوة ليست من نظمه».
وبعد نشر التغريدة توالت عليّ التساؤلات بحكم أني مهتم بكل ما يتعلق بالشاعر محمد العبدالله القاضي - رحمه الله - ولي كتاب عنه.
والحق أن هذه الكلمة من حفيد الشاعر، كلمة لا يمكن تجاهلها, وقد لمت نفسي على عدم اطلاعي عليها عند البحث مع أني قرأت الكتاب الذي أوردها مرات عدة، ولكن قبل اهتمامي بدراسة سيرة الشاعر وشعره, فهل حقًّا قصيدة القهوة ليست للقاضي؟
عندما حققت ديوان الشاعر اعتمدت على أهم روايتين له: الأولى رواية الربيعي - رحمه الله - ت1402هـ، وهو من هو في الرواية، وخصوصًا فيما يتعلق بشعراء عنيزة, وكان والده - رحمه الله - صديقًا للقاضي وراوية لأشعاره. والثانية رواية (ديوان النبط) للمرحوم خالد الفرج ت 1374هـ، وهي كما يقول في المقدمة مأخوذة من ديوان الشاعر بخط يده، أهداه إياه حفيد الشاعر محمد الحمد القاضي ت 1382هـ. ومحمد الحمد هذا وصفه الفرج بأنه «أديب مثقف», وهو أيضًا تاجر ورحالة، وعاش شطرًا من عمره متنقلاً في الخليج, وهو الذي صودر منه تاريخ مقبل الذكير من قِبل السلطات العراقية في أواسط القرن المنصرم. وذكر الفرج في المقدمة أن دافع الحفيد لإهدائه الديوان إنما كان هو التوثيق على وجه التحديد, وقال إنه عندما اطلع على الديوان وقارنه بما جمعه مما يتداوله الناس وجد بونًا شاسعًا بينهما.
وأقول: إذا كانت غاية هذا الحفيد هي التوثيق فكيف ينقل قصيدة ليست من نظم جده؟ علمًا بأن المؤلف كما ذكرت أشار إلى أن ما أهدي إليه إنما هو ديوان القاضي بخط يده. وأقول: ربما كتبه القاضي نفسه أو أبناؤه من بعده، وظن المؤلف أنه بخط القاضي نفسه.
وقد وردت القصيدة في الروايتين, وذكرت في الحلقة السابقة, كما أشرت إلى أن القصيدة وردت في كتاب (نزهة الألباب في تاريخ مصر..) لمحمد حسني أفندي العامري, المطبوع في عام 1314هـ. والقصيدة متداولة في الرواية الشفهية والمكتوبة على نطاق واسع, ولم أسمع أو أقرأ قبل التغريدة ما يشير إلى نفي نسبة القصيدة للقاضي أو حتى إلى شكٍّ فيها لا تصريحًا ولا تلميحًا. وعندما كنت أعد دراستي عن الشاعر كان العم إبراهيم المحمد البراهيم - شفاه الله وعافاه - وهو ابن العم محمد البراهيم الذي نقلت التغريدة نفيه نسبة القصيدة لجده, وهو باحث ومثقف، وله مؤلفات ومقالات متعددة حول أعلام الأسرة، بمن فيهم جده الشاعر محمد العبدالله, كان من أهم من دعمني وزودني بالمعلومات, وخصوصاً ما يتعلق بحياة الشاعر وأسرته وذريته, بل إن صورة المخطوطة التي اعتمدت عليها في تحقيق الديوان أهداها إليه الراوية الشهير المرحوم إبراهيم الواصل (ت1424هـ)، وسلمه إياها بحضوري في زيارة للواصل في منزله للاستماع إلى توجيهاته فيما يتعلق بدراستي.. ومع ذلك لم أسمع منه يومًا أن والده ينفي نسبة القصيدة لجده, أو أنه هو نفسه ينفيها!
وإذا كان الأمر كذلك فما تفسير هذا النفي من الحفيد وهو ابن إبراهيم القاضي, الابن الأصغر لمحمد العبدالله القاضي (ت1346هـ) الشاعر المعروف وصاحب التاريخ المطبوع حديثًا؟ فهل كان الحفيد - رحمه الله - واثقًا من هذا الخبر؟ أم أنه سمعه لا على وجه اليقين من أحد أقاربه أو أصدقائه؟ وهل ظل مؤمنًا بهذا طيلة حياته؟ أم أنها كلمة عابرة التقطها العم محمد العثمان وسجلها؟ أم أنه نفى القصة المزعومة دون القصيدة ففهم العم محمد العثمان أنه ينفي القصيدة؟الحقيقة إنني لا أعرف الجواب على وجه اليقين عن هذه التساؤلات، لكني أرى - على سبيل الظن - أن الدافع لهذا النفي إن كان موجّهاً للقصيدة برمتها لا للقصة وحدها إنما هو الزهد والورع والتقى, وخصوصاً أن القصيدة ارتبطت بها تلك القصة المزعومة التي لا تليق. وهذا النفي - كما يلاحَظ - لا يقف على قدم راسخة أمام ما ذكر أعلاه من دلائل الإثبات. والله أعلم.