عبدالعزيز السماري
يكثر الحديث عن الليبرالية في المجتمعات الشرقية، وتختلف المواقف منها، ويحاول بعض المفكرين الترويج عنها كأيدولوجية، ويعارضها آخرون على أنها فكرة غربية خالصة، وأنها العدو الذي جاء ليفرض التبعية للغرب، وهو ما يدعونا إلى التمعن في هذه الظاهرة المختلف حولها، ومحاولة تقديم تصور عام عنها.
لعل التصور الأقرب إلى منطق الليبرالية بالنسبة لي أنها في البدء تمثل حالة عامة، وليس خاصة، فيُقال على سبيل المثال إن المجتمع أصبح أقل تزمتاً عند مقارنتة بمرحلة الستينات، يقبل المختلف عليه في حياته، ولم يعد يفرض بعض المسلمات في فترات سابقة، ومثال ذلك تحول غرض السفر من المحرم إلى الحسن، وكذلك تقدمت خيارات المتعة على دعوات الزهد والعزلة، وأصبحت ظاهرة الثراء هدفاً للغالبية.
بمفردت أخرى الليبرالية أو احترام الحريات الشخصية تقدمت كثيراً في المجتمع عند مقارنتها بالمراحل ما قبل ثروة النفط، لذلك هي حالة اجتماعية وليست فردية، ومهما اختلفنا عليها ستستمر في التطور والتقدم، إذا كان ذلك متلازماً مع تقدم الاستقرار وتحسن دخل الفرد.
الأمثلة على صحة هذا التصور كثيرة جداً، لدرجة أن الذين عاشوا لفترات طويلة يلاحظون ذلك على الخطاب الديني، فذهنية التحريم التي كانت تسيطر على جميع الفتاوى تغيرت كثيراً، ولو قارنا بين فتاوى السبيعنات وفتاوى هذا العقد قد تتضح الرؤية حول مفهوم الليبرالية الاجتماعي..، فالتسامح والميل إلى تقديم المرونة حول الأشياء المختلف عليها أصبح يغلب على الأحكام الفقهية.
ولو يصح أن أختار عاملاً طردياً واحداً فقط، ينسجم مع حالة التقدم الليبرالي الاجتماعي، فسأختار عامل الثراء وتحسن دخل الفرد، والعكس صحيح، لأن الفقر والعوز يفرضان العزلة والتوحش ويعتبران نكسة في مسار التطور الاجتماعي..
لهذا السبب على وجه التحديد تتضح ملامح الليبرالية والتسامح في الطبقات الأكثر ثراءً، وعادة يكون لهم دور في التحكم في بعض آليات التطور الاجتماعي، بما يمثلون من سلطة مادية، لكنها قد تصطدم في المستقبل بالتحولات الكبرى في مسار المجتمع.
التحولات الكبرى في مسار اللبرنة العفوية مصدرها اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع، وبين الثراء والفقر، وهو ما يجعل من الليبرالية حالة نخبوية اجتماعية خاصة، بينما يتحول بقية القوم إلى مراقبين على المشهد الخاص، ويعني ذلك خروجهم من المسار الاجتماعي، ومن ثم تحولهم إلى مسارات أخرى تخفف من معاناتهم من أحوال الحرمان.
لهذه الأسباب يشكل الاقتصاد وتحسن معدلات الدخل حجر أساس في المعادلة الاجتماعية، ولهذا لابد من حالة معيشية أعلى من حد الكفاف، قد تكون ضرورية لتكون بمنزلة الحصن ضد أوبئة الفقر والعوز والحاجة، ويتم تحقيقها بتعزيز المكتسبات بين الأفراد، والعمل على المحافظة على مستويات محددة للمعيشة.
ومن أجل هذه النتائج تقوم عادة الدولة الحديثة أو العصرية في العالم المتطور على عوامل عدة، من أهمها تقويم مسارات الاقتصاد، وتشجيع التعليم العالي والمتخصص والمهني، وتقديم حلول مجدية لأزمات البطالة، وتطوير مستمر لأنظمة التأمينات الاجتماعية، وذلك لوضع حدود دنيا لحالة الفقر وضمان عدم خروجهم عن المسار العام إلى المجهول.
خلاصة الموضوع أن الليبرالية نتيجة في البدء وليس أيدولوجيا، لكنها قد تتحول إلى حالة عامة أركانها الاقتصاد والقانون والحرية.