د. حسن بن فهد الهويمل
في هذه الأجواء المترعة بالمتناقضات تُصْنَع الأنساقُ الثقافية المؤذِنَةِ بتصدع اللحمة الفكرية.
ولك أن تتصورها كـ[مَلاَعِبِ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فيها… سُلَيْمانُ لَسَارَ بِتُرْجُمانِ].
الحكماء المجربون أطلقوا كلمات جامعة مانعة من مثل:- [تكلم حتى أراك]، و[قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت].
جيلنا الحاضر في تشكله جيل مرتبك، متسطح، لم يؤسس معارفه، ولم يحرر مسائله، ولم يبرهن عن هويته، باستثناء الصقور:- [وأم الصقر مقلاة نزور].
جيل قدم نفسه للغالب كعجينة [الصلصال]؛ ليصنعه على عينه، وكـ[أوعية فارغة]؛ ليملأها بما يريد، وكأرض ميتة لمن أحياها بالشوك، والشجر المجتث.
تخلى عن تراثه، واحتقر تاريخ أمته، ولما يزل تحت تأثير خدر الانبهار، والاندهاش.
[الحضارة الإسلامية] بموروثها التكوُّني، والتفاعلي، والتنوعي، والمنهجي، والتأصيلي، والاستيعابي قادرة على ممارسة كل الخيارات:-
التصالحية، والتفاعلية، والصراعية، والاعتزالية. إنها في سياق كل الحضارات معها حذاؤها، وسقاؤها. لا تُخْشى عليها العزلة، ولا يُخَاف عليها من الاختلاط. ومن عشق المدنية المنضبطة وجد فيها أجواءً مناسبةً، تمكنه من اللحاق بكل الحضارات المادية.
ما يسوء هو الفهمُ الخاطئ للإسلام من أبنائه، فضلاً عن خصومه. فكم من [متعلمن] يظن به ظن السوء، ويرى أن قيم [الليبرالية] و[العلمانية] لا تتحقق بوجود الإسلام. وما درى أن الحضارات الإنسانية تكاملية، تفاعلية. وأن الموروث الإنساني يتحول، ويتبدل، ويتلون داخل الحضارات المهيمنة:- وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ .
[الحضارات] تتوارث، ولا تموت. تتداخل، ولا تعتزل. فكم من قيم إسلامية كامنة بكل المذاهب و[الآيديولوجيات] المادية.
ولَكَمْ قلت بأنه لا توجد حضارة بريئة؛ فكل حضارة جديدة هي مجموعة بقايا حضارات بائدة، مثلما أن الأسد مجموعة خراف مهضومة.
كنت أود من صناع الأنساق الثقافية استحضار هذه الحقيقة، ومحاولة التقريب بين الحضارات، والاشتغال في القواسم المشتركة؛ لتسعد الإنسانية التي كرمها الله:- وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ .
وكم كنت أود من المتذيلين لثقافة المستبد وعي حضارتهم، وجهد علمائهم، وصراع مفكريهم، واختلاف مذاهبهم، في كل المعارف، وتعايشهم، وتفاعلهم، وتبادل الاحترام فيما بينهم.
واجب المتقحمين لصنع الأنساق التأصيلُ، والتحريرُ، والاستنارةُ قبل التنوير.
المتطرفون من [الليبراليين] كالمتطرفين من [المتدينين]، كل فئة تُقْصِي، وتُصَنِّف، و[تُدَعْشِن].
والنسق الثقافي حين ينفرد بصنعه هؤلاء، أو أولئك، أو يشتركون فيه، تأتي على أيديهم بصائر الأمة عُمْيا، لا حولا.
غرد أحدهم قائلاً:- [الذين يرفضون تعليم الموسيقى هم دواعش فكر بالضرورة].
وحين سُئِل:- [هل كل من أفتى بأن الموسيقى حرام داعشي..؟].
قال:- [نعم، داعشي، ومتخلف، ولا بد من طرده من الحياة].
ذلكم مثل من صناع الأنساق [المتغربنين]، تصنيف، واحتكار، وصلف، واستعداء، ومصادرة صريحة لحقوق الشركاء في السفينة، وتأليه للهوى، وجهل بالإرث الفقهي.
أن تَمْلِك حق الإباحة فقد ملكها عالم جليل قبلك، كـ[ابن حزم]، وأن يملك غيرك حق التحريم فقد ملكه قبل [المُدَعْشنين] عالم أَجَلُّ كـ[أحمد بن حنبل].
المسألة في النهاية خلافية، وسعتها كتب الفقه، وما أحد سَفَّه خصمه. كل الأطراف قالوا أحكامهم، ومضوا، ولم يصنفوا، ولم يستعدوا.
الاختلاف حتم وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ، وهو حق لمن هو أهل للاجتهاد. أما الإقصاء، والتصنيف، والاستعداء فخلق دنيء، ومؤشر جهل بضوابط الاختلاف، وتطفل على مسائل الجمهور. تلك عينة، والمرجفون كبغاث الطير.
لا نريد احتكار الحقيقة، ولا نريد مصادرة الحقوق. دعونا نشكل النسق الثقافي على هَدْي من النص القطعي، والعقل الصريح، والرؤية الشمولية، والتأصيل المعرفي.
المشهد يتسع للخلاف. والحقائق لا يجليها لوقتها إلا الحوار. وحرية الاجتهاد لمن يملك ناصيته.