من بعيد، يبدو الرُّبع الخالي منبَسَطَ أرضٍ شاسعًا، وهو في الحقيقة سلاسل وهادٍ وكثبانٍ يربو ارتفاع كثير منها على 800 قدم (نحو 250 مترًا)، وتتوسطها حُقَنٌ عميقة تُرهب الناظر من على أكتافها، بأفواهها الفاغرة الشاغرة. يُخَيَّل إلى الناظر إليها، أنها بقعة عديمة الخير، لا يقوى بشر على استنباط رزق منها، وهي في حقيقتها خزنة أُودِعَت فيها خبايا ثمينة.
مع أن اسم هذه الصحراء هو الرُّبع الخالي إلا أنها تضم نحو ثلث مساحة الجزيرة العربية، إذ تبلغ مساحة الرُّبع الخالي 650 ألف كيلومتر مربع وتزيد هذه المساحة على مساحة فرنسا وبلجيكا وهولندا معًا. أما طول هذه الصحراء فيزيد على ألف كيلومتر وينيف عرضها على 500 كيلومتر.
تقع منطقة الشيبة في شرقي صحراء الرُّبع الخالي من المملكة العربية السعودية، وهي منطقة كانت معزولة وخالية تمامًا من الوجود البشري لما يتميز به مناخها الصحراوي القاسي بشكل عام مما جعل فرص الحياة فيها قليلة بل تكاد معدومة. كـما تتميز بوعورة التضاريس والبعد عن الطرق المعبدة. وأُدّعي أنها صعبة المِراس حيث تعزلها كثبانها الرملية الشاهقة عن العالم، غير أن مشروع حقل الشيبة بدَّد تلك النظرة وأثبت خلاف ذلك، بل وأوجد انسجامًا رائعًا بين تناقض بساطة البداوة وطبيعة الصحراء؛ وبين زخم التقدُّم الصناعي والتقني المعقَّد راسمًا بذلك لوحة جميلة مشرقة تستحق أن تخلّد سيرتها..
مغامرة حقل الشيبة
حين اشتبهت شركات النفط، في أوائل القرن العشرين، بوجود وفرة من الزيت في المملكة العربية السعودية، ولا سيما في الرُّبع الخالي، أفصحت عن رغبتها في الاستكشاف. وكان لجلالة الملك المؤسس عبدالعزيز - رحمه الله - الفضل في إنارة الضوء الأخضر لفتح الباب الذي كان منعطفًا في تاريخ المملكة الحديث، حينها، بدأ ضوء الحياة يزحف نحو الشيبة، كما بدأ بريق الطاقة يشع منها.
كان الزحف إلى الشيبة، في القرن الماضي متدرجًا، بعد التنبه إلى احتمال وجود ثروة النفط، مخبوءة في الرمال، ومع أن عروق الشيبة لم تكن يومًا غريبة على القبائل العربية التي ترتاد الرُّبع الخالي، وتتخذه ممرًا في ترحالها، إلا أن أوائل الرحالة الذين قصدوا استكشاف الرُّبع الخالي، تمهيدًا للتنقيب فيه، كانوا مجموعة من الخبراء والمستشارين الأجانب، الذين استعربوا.
بداية التحدي
بعد مغامرات المستكشفين الأوائل، انتظرت أرامكو السعودية الضوء الأخضر، لتبدأ استكشافًا آخر، لا يقل عنًاء وجهدًا بشريًا. لكنه استكشاف، أفضى في أواخر القرن الماضي، إلى واحد من أكبر مشاريعها لاستخراج الزيت وهو مشروع حقل الشيبة. فقد بدأت قصة المشروع في سنة 1355ه (1938م)، عندما زار فريق من الشركة الرُّبع الخالي أول مرة، لاستكشاف إمكان العثور على مخزون نفط في باطن الأرض هناك. ووضع الفريق تقريرًا مشجعًا، دفع أرامكو السعودية إلى الشروع في التنقيب، على نطاق واسع، غير أن نشوب الحرب العالمية الثانية، التي استمرت من سنة 1358 إلى سنة 1364ه (1945-1939م)، أجل المشروع حتى سنة 1367ه (1948م).
وفي السنوات الثلاث التي أعقبت انتهاء الحرب وسبقت استئناف جهود الاستكشاف، كان العمل جاريًا على قدم وساق لتطوير سيارات ضخمة، تقوى على ظروف الصحراء القاسية، وتستطيع خوض غمار بحر الرمال الهائل. كان لابد لهذه السيارات من أن تتحمل على الخصوص ثلاثة أمور استثنائية، ليس في السيارات العادية احتياط كاف لها، وهي الحرارة الشديدة في لهب الشمس الصحراوية، والرمل والغبار، والمؤن. فالوقود بعيد المنال هناك، أما الماء فنادر في الرُّبع الخالي، وبعض مصادره مطمور ولابد من الحفر لاستنباط الماء منه. أما الآبار فتحتاج إلى مضخات وصهاريج وأنابيب. والماء في أي حال مالح لا يصلح للشرب، معظم الأحيان. ويحتاج فريق التنقيب إلى ما يراوح بين 50 و75 مترًا مكعبًا من الماء في اليوم.
في سنتي 1368- 1369ه (1949- 1950م)، بدأت أرامكو السعودية حفر آبار التجريب في المنطقة، فقد تسلحت بمعدات ضمت سيارات ضخمة، صُمِّمت لتقوى على السير في أصعب مسالك الصحراء، وهي سيارات جهزت بخزانات وقود تتسع لــ (600) ليتر بنزين. وطورت مبردات الماء وزيدت سعتها، في هذه السيارات، فصارت السيارات قادرة على أن تتحمل، هي والمحرك معًا، حرارة تصل إلى 57.2 درجة مئوية.
كان بعض هذه السيارات الضخمة يسير على 10 عجلات. ولما كان التنقيب في بقعة نائية بعيدة عن أي مواقع عمران بشري، وعن أي مرافق خدمات عامة، وكان لا بد في الوقت نفسه من حماية البيئة من أي تلويث محتمل، استُحدثت للمهمة عربات منافع، تسير على عجلات طائرات دي سي 3، حتى تتمكن من تسلق الكثبان بأمان، وتعبُر البطاح الصعبة السلوك. كذلك استُحضرت سيارات ذات دفع رباعي، مخصصة للمسير في الرمال، وقد جُهِّزت بأجهزة إرسال واستقبال قوية، وببوصلة للاسترشاد في الصحراء، ومخازن ماء كبيرة.
كذلك أعدت أرامكو السعودية وسائل متعددة لنقل الرجال والمؤن والمعدات على اختلافها. منها طائرات هافيلاند بيفر ذات المحرك الوحيد، وقد أُبدِلَ محركها، وزودت محركًا خاصًا يستطيع مقاومة الحر الشديد والرمال بفضل مصفاة خاصة. كذلك جُهزت الطائرة بجهاز لاسلكي قوي للغاية، قادر على مواصلة الاتصال في أصعب الظروف. ورُكِّبَت على الجناحين مخازن وقود إضافية، تحمل فيها الطائرة وقودًا بسيارات فريق التنقيب، التي ينفد منها الوقود في الصحراء، أينما كانت، وكان في استطاعة هذه الطائرة أن تهبط وتقلع في أي نوع من الأرض تقريبًا، لتسارع إلى نجدة أي فريق من فرق المنقبين.
أما المعدات الضخمة، مثل برج الحفر، وغيره من أدوات عمل ضرورية، فكانت تنقل على قاطرات هائلة، كان وزن إحداها يفوق 200 طن، وكان سيرها في الصحراء مئات الأميال لنقل حمولتها الضخمة، مشروعًا في ذاته، يستغرق أسابيع طويلة.
اكتشاف النفط
تم اكتشاف النفط في منطقة الشيبة أثناء حفر البئر الاستكشافية (الشيبة 1) في عام 1388هـ (1968م) وهو من النوع العربي الخفيف جدًا، ذو كثافة قدرها 42 درجة حسب مقياس معهد البترول الأمريكي. وقد كان جيولوجيو أرامكو السعودية يعلمون أنه لا توجد سوى مناطق قليلة جدًا في العالم تكون فيها أعمال النفط أكثر صعوبة مما هي عليه في هذه المنطقة.
وكان الذهاب إلى الشيبة يتبع نظامًا صارمًا، لحماية السائقين والركاب، الذين كانوا على متن المركبات المتجهة إلى هناك، من العطش والجوع والضياع في الصحراء. وكان على السائق أن يُبلغ رؤساءه الوجهة التي يقصدها بالضبط، ويقدّر المدة التي تستغرقها رحلته، وأن يعيّن الطريق التي سيسلكها. وكان على المرتحلين أن يحتسبوا المؤونة اللازمة، فلكل شخص جالونان ماء، كل يوم سفر، ولكلٍ أن يحمل مؤونة طعامه الكافية لسفره بين مرحلة وأخرى من الطريق. ولم يكن مسموحًا الاعتماد على إمكان الوصول إلى مكان مأهول، قبل الوجبة التالية. فقد كان الاحتياط لازمًا بحمل وجبات تزيد على الحاجة المحسوبة.
مضت جهود الاستكشاف والتنقيب، مضنية شاقة، سنوات عديدة، لكن لم يشبها حادث خطير، بفضل دقة التخطيط والاحتياط للمخاطر ووسائل تداركها وتجنبها. فكان كل أمر يتعلق بالسلامة والأمن ومنع الحوادث، يحظى في الشركة منذ البداية باهتمام وحرص شديدين.