د. جاسر الحربش
لست من الذين يهابون التجديد الفكري بل من الذين يبتهجون به، وبالذات عندما يطرح أمام الجميع قبل التحول إلى فعل. سوف أتعامل مع الأفكار التي طرحها المستشار في الديوان الملكي الأستاذ سعود القحطاني في مقاله المكثف بعنوان: الدولة الوطنية والشرعية الإيديولوجية. جريدة الرياض بتاريخ 11 ذو القعدة 1438هـ. سوف أتعامل معها على أساس أنها ورقة وليست مجرد مقال في السياق اليومي العام.
المحتوى وشجاعة الطرح والتوقيت المناسب تجعلني أفهمها كورقة عمل قدمت بطريقة الانفتاح على الرأي العام وليس في مؤتمر نخبوي مغلق.
لذلك أبدأ مداخلتي بسؤال مفتوح على الجميع: هل نحن مطمئنون، بناءً على ما أوصلتنا إليه مفاهيمنا القديمة وتطبيقاتها، إلى المستقبل؟. أم أننا بسبب تلك المفاهيم للحياة والتعايش الداخلي والخارجي ولعلاقاتنا بأنفسنا وبالآخر صرنا في وضع لا يمكن الاستمرار فيه بدون تعريض الدولة والمجتمع لأخطار جسيمة تلوح في الأفق؟. هل جعلتنا سنوات الغفلة السمان نفرط في الوقت والأموال والاختيار العشوائي للأصدقاء والأعداء، فيتوجب علينا الآن التحليل الدقيق والتصحيح، وبسرعة توجبها الظروف الملحة؟.
حاولت حصر الأفكار الواردة في مقال الأستاذ سعود القحطاني في ثماني عشرة نقطة وجدتها على غاية الأهمية. في مقال واحد لن يمكنني إبداء تعليق نقدي على كل تلك الأفكار، لذلك سوف أوزع المهمة على عدة مقالات أبدأها اليوم بثلاث نقاط فقط، والبقية في الأعداد القادمة، إن شاء الله.
النقطة الأولى في الورقة: الجنسية الوطنية لا يؤمن بها الفكر الإسلاموي.
التعليق : هل هذا الزعم صحيح؟، أقول نعم يصبح كذلك عندما نعترف بالفارق الكبير بين الفكر الإسلامي السائد المرتبط بالكيان الذي نحمل جنسيته كدولة وطنية، وبين الفكر الإسلاموي الذي يختار ويتغيا من الإسلام الواسع ما يخدم أهدافاً إيديولوجية سياسية تتجاوز المصلحة الوطنية وتحاول تجييرها لصالح دولة أممية إسلامية متخيلة. الفكر الإسلاموي يركز في أدبياته وخطابه الوعظي وشحنه الجماهيري على التواصل مع الحراك المشابه له في الخارج والتكامل معه، رغم أنه يعرف ما يسببه ذلك من إرباك وتهديد هائل داخل مكونات المجتمع السعودي المتعدد المذاهب والإرث الثقافي. تعتبر الجنسية الوطنية عند التيارات الإسلاموية في كل أماكن تواجدها عائقاً يجب أن يزال عن طريق التكامل الأممي الإسلامي. الشخص المؤدلج نظريا ً في التيار الإسلاموي يعرف ما يعتور ذلك من خيال جامح، لكنه يذوب في نرجسيته الشخصية وفي تبعيته الشللية، ولكن ويا للعجب مع استمرار استمتاعه الدنيوي بكل ميزات الدولة الوطنية حتى الثمالة.
النقطة الثانية في الورقة: الخطاب الإسلاموي لا يعترف بالدولة القطرية ولا بالحدود الدولية.
التعليق : نعم هو لا يعترف، والعلاقة الحركية الحميمة بين المتشابهين في قطر وتركيا ومصر والسودان واليمن وتونس والسعودية تحولت إلى أحد المهددات الأمنية السياسية والاجتماعية للاستقرار والتنمية الوطنية في كل الدول العربية، بل وأصبحت كابوسا ً مؤرقاً في دول مجلس التعاون الخليجي بالذات، ويبدو أن ذلك من مقاصد الفكر الإسلاموي.
النقطة الثالثة في الورقة: قبل حلف ويستفاليا عام 1648م (Pax Westfalica) لم يعرف مفهوم الدولة الوطنية في أوروبا، والموجود كان الإمبراطورية الإلهية المسيحية تحت إشراف البابا، والتي بسببها قتل نصف سكان القارة الأوروبية.
التعليق: الضرورة هي التي جاءت بحلف أو معاهدة ويستفاليا لإنقاذ أوروبا من التدمير النهائي بسبب الحروب بين الطوائف المسيحية لأسباب سياسية واقتصادية لا علاقة لها بالأصول الدينية المسيحية. عندما وقع الحلف عام 1648م كان نصف سكان أوروبا قد هلك بالفعل في الحروب المذهبية فأصبحت الدولة القطرية هي البديل الوحيد المتفق عليه لإيقاف الدمار وللتعايش والتبادل الفكري والثقافي والتجاري. من هنا بدأت النهضة الأوروبية العلمية الحديثة التي اكتسحت العالم.
مهم هنا أن يعترف الحالمون بدولة الخلافة الأممية أن كل دولة أوروبية وطنية احتفظت حتى اليوم بكنائسها ومذاهبها وحرية العبادة دون إكراه.
أتوقف هنا لانتهاء الحيز المتاح للمقال، والبقية في الطريق لمن يريد المتابعة.