إبراهيم عبدالله العمار
من أكبر حماقات التاريخ ما فعله لويس الرابع عشر لما نقض مرسوم نانت.
هل مر عليك هذا؟ ليس معروفاً لدينا، لكن فرنسا لن تنسى هذا الحدث أبداً!
فرنسا نصرانية، لكن النصرانية لها طوائف كثيرة، والأغلبية كاثوليك، والذين طالما قتلوا وعذبوا بقية الأديان والطوائف ومن أبرزها البروتستانت، وفي فرنسا كان هناك فئة صغيرة اسمها هوغونوت على دين البروتستانت، وبعد عقود من الدماء والشحناء أتى هنري الرابع فأصدر مرسوماً ملكياً في 1598م بالتسامح الديني مع الهوغونوت وهو الذي عُرف بمرسوم نانت (مدينة فرنسية)، فنالت أمة هوغونوت أنواعاً من الاستقلال والحرية والتسامح أرضتهم وأوقفت التناحر، لكن لما أتى لويس الرابع عشر وهو حفيد هنري المذكور كان من سيرته أخطاء أضرت فرنسا، أبرزها نقض المرسوم، لكن سبق ذلك طوام أخرى، ولنر بعضها.
الهوغونوت (2 مليون) أقل من ثلث الفرنسيين آنذاك، ولاحظت الأغلبية الكاثوليكية شيئاً مقلقاً عن الهوغونوت: إنهم يعملون كثيراً! الكاثوليك أقل عملاً بكثير، فلم يجتهدوا بالأعمال اليومية، ولهم عطل كثيرة تزيد على 100 عيد سنوياً غير العطلة الأسبوعية، أما الهوغونوت البروتستانتيون فكانوا يأخذون السبت فقط من كل أسبوع، فصاروا أكثر إنتاجاً وأنجح تجارياً، وجذبوا الزبائن بعيداً عن المتاجر الكاثوليكية، وهذا السبب الخفي لما بدأ الفرنسيون يهمسون في أذن الملك عن خطورة الهوغونوت متذرعين بالاختلافات الدينية، وهوّلوا من شأن الهوغونوت وأن حريتهم الدينية آتية بالوبال.
اقتنع لويس، والذي حكم بتسامح ربع قرن، لكن قصُرَت نظرته وزاد تشدده مع الزمن، وترك حكمة وسماحة أسلافه، فبدأ اضطهادهم عام 1681م ومنع طقوسهم الدينية وأغلق مدارسهم وكنائسهم، ثم أمر بفرض التعميد الكاثوليكي (تغطيس الوليد)، وفصَل بين الأطفال وأهلهم ليكثلهم، وفصل مسؤولي الدولة من الهوغونوت، وظهرت فرق التحويل الديني لتدعوهم، وكان لتارك دينه مكافأة مالية. بعد فترة زادت المحنة فصنع لويس حماقة أخرى: عنف متوحش ضدهم. أطلق مجموعات مسلحة تعيث فساداً ضدهم، وترك لهؤلاء الهمج كامل الحرية، فاقتحموا البيوت وقتلوا واغتصبوا وعذبوا ونهبوا، وتصاممت الدولة عن استغاثاتهم، وأعطتهم - ببرودٍ كامل - منجىً واحداً: اترك دينك، نتركك. كثرت التحولات الدينية لكن كرهاً، وظهرت الحماقة الكبرى للويس لما فرح بتحول أعداد كبيرة من الهوغونوت (وصلت إلى 60 ألفاً في 3 أيام ببعض المناطق)، فأصدر القرار المشؤوم ونقض المرسوم الذي كان يتسامح معهم وذلك عام 1685م، وكان مسوغه: لقد اختفى الهوغونوت وصاروا كاثوليك، لذا فلا جدوى من بقاء المرسوم!!!
بدأت آثار السياسة تظهر، فشد الهوغونوت الرحال وهاجروا لإنغلترا وألمانيا، على رأسهم صانعوا الورق والنساجون والصيرفيون وصانعو السفن وكاتبو الكتب والمحامون والأطباء، وغيرهم من أصحاب الحرف التي تفرّدت بها فرنسا. ليس هذا فحسب بل فقدت فرنسا آلاف العسكريين المحترفين والذين انضموا لجيوش ملك هولندا المعادي لفرنسا، والذي صار تهديداً مضاعفاً لما أخذ مكان المخلوع ملك إنغلترا بعدها بقليل. انهارت تجارة الحرير في مدن فرنسية، وأخذ الاقتصاد يتهاوى، ولم يمت لويس تاركاً دولة موحدة كما أمِل بل ترك معارضة مبغضة له، وبدلاً من أمة ثرية ترك شعباً مشتتاً متناحراً فقيراً.