د. جاسر الحربش
النقطة السابعة في الورقة: القول بأن الأيديولوجيا كانت وما زالت السبب الوحيد للاستمرار غير دقيق؛ لأن التاريخ العالمي - بما فيه السعودي - يوضح أهمية الأيديولوجيا للتأسيس، لكنها يمكن أن تتحول إلى أسباب ضعف وتفكك كما حدث في الدولة السعودية الأولى.
التعليق: هذه النقطة شديدة الحساسية؛ لأنها - وحسب الأداء الظرفي لأي شرعية عبر التاريخ - قابلة لتبديل الأماكن بين الشرعية الأيديولوجية والسياسية.
لم يعرف التاريخ مطلقا دولة استمرت طويلاً بسبب الارتكاز على الأيديولوجيا، كما أنه لم يعرف التاريخ دولة استمرت طويلاً بسبب الشرعية السياسية بدون مرجعية أيديولوجية.
الدولة الإسلامية الأولى التي تأسست أيديولوجيًّا لم تستمر سوى أربعين سنة، ثم أعقبها الملك العضوض الذي انتهى بعد خمسين سنة.
الدول الفاشية في أوروبا لم تكن لديها أيديولوجيات سوى خرافة التفوق العرقي، والدولة الأممية الشيوعية لم يتبقَّ لديها سوى الأيديولوجيا بعد انتشار الفساد السياسي بداخلها، وكلا النموذجين اختفى دون أثر.
الصحيح في رأيي هو أن الشرعية السياسية والأيديولوجية لا بد أن تزاوج بين الاعتدال الإيجابي والتطوير المستمر استجابة لمتطلبات الأجيال المتتابعة وتغير الأحوال الداخلية والعالمية، بشرط الاحتفاظ بالأصول التي لا غنى عنها، والتي بدونها تصبح الدولة بشرعية جسدية مادية لا روح فيها، أو بشرعية روحية معلقة في فضاء التنظير لا مخالب ولا أظافر لها للدفاع عن النفس.
فحوى التعليق يتركز في القول بأن الاستغناء عن إحدى الشرعيتين يؤدي بالضرورة إلى نهاية الأخرى.
الدولة كالجسد، يبقى مادة متيبسة ويتفتت إلا أن تدب فيه الروح.
النقطة الثامنة: الأيديولوجيا فكر أحادي متقوقع، لا يتكيف مع الظروف المتغيرة، وهذا لا يخدم الاستمرار.
التعليق: هذه المقولة تحتاج إلى إدخال تعديلات لتصبح مقبولة. الأصح أن نقول: عندما تتحول الأيديولوجيا إلى فكر أحادي متقوقع لا يتكيف مع الظروف المتغيرة فإن ذلك لا يخدم الاستمرار. في حالة الاحتفاظ بالجملة كما وردت في ورقة المستشار القحطاني نستطيع أيضًا أن نقول: السلطة السياسية بدون الاحتكام إلى شرعية العبادة والعدالة والإنجاز والتطوير تكون سلطة أحادية، لا تخدم الاستمرار. الجسد بلا روح يتيبس وينكسر، والروح بلا جسد مجرد وهم.
النقطة التاسعة: في الكيان السعودي شرعيتان، الشرعية الواقعية المدعمة بقوة السلطة، وتلبيتها حاجات المواطن والإنجازات الملموسة، ورمزها العائلة المالكة. والشرعية الثانية هي الأيديولوجية. الشرعية الأيديولوجية سبَّبت أزمات متكررة، والشرعية الواقعية حافظت على البقاء والتماسك.
التعليق: الشرعيتان لا بد من توافرهما واقعًا في كل دولة وطنية مستقرة ومزدهرة. مصطلح الغرب المسيحي يشرح هذا الواقع، وعلمانيته المادية لا تعني إلغاء روحه المسيحية.
الإشكال والأزمات تتراكم عندما تبدأ شرعية الأيديولوجيا تنازع الشرعية السياسية على حقها في التحديث والتطوير والتعايش التبادلي مع العالم، ثم تحمل باطنيًّا مشروعها السياسي الخاص بها لتعارض به السلطة السياسية الواقعية.
يرتفع سقف الإشكال والأزمات عندما تختط الأيديولوجيا لنفسها مشروعًا يتعدى حدود الدولة الوطنية، ويعمل لحساب العولمة الأيديولوجية ضد مصالح الدولة الوطنية.
الدولة السعودية الأولى في تطبيقها الثيوقراطي، ويابان ما قبل الإمبراطور الميجي، هذه مجرد أمثلة على تنازع الشرعية بين السلطة السياسية والأيديولوجية، ثم ينتهي الصراع بحروب أهلية تستمر لعشرات السنين.
انتهى المجال المتاح لهذه الحلقة، وإلى اللقاء لمن يريد المتابعة في الأعداد القادمة.