د. خيرية السقاف
في كثير لا يميل المرء إلى الحديث عن نفسه, يشعر تماما بأنه من منطلق الثقة فيها, ومن باب الولوج للعمل من أجلها ينبغي أن يعمل بصمت, ويُتمَّ ما يعمل تمام الكفاية التي يرضى عنها ربُّه بمستوى إتقانه لما يعمل..
وحين نشهد موسم الحج, ونعلم نحن يقينا بأنه ليس الأيام التي تبدأ بوصول أول حاج من خارج الحدود, وببيات نية أي حاج آخر داخلها, بل نعلم إنه عمل دؤوب على مدار الساعة, واللحظة, واليوم, والشهر والسنة, حين نحن واثقون بأنه موسم دومي يكتمل بيوم عرفة, وينتهي يوم وداع آخر حاج عن مَخرج الوطن, ومبيت أي حاج في داخله, فإننا على يقين بأنها عودة العمل للحج الذي يلي في ترسانته نشطا, فعالا, إننا حينئذ نطمئن لأن نقول في نفوسنا «نجحنا», ونتطلع للسماء بقبول ما عملنا, وتكون البلاد كلها نحن, ونكون نحن كلنا الذين تجتمع نفوسنا معا في معية الحاج, وجميعنا واحد..
لذا لا نتكلم كثيرًا عن أنفسنا إلا متى استدعت الحاجة, فتتحول لحظتها الأقلام جنودًا للوطن, وكلٌّ في مجاله يقول!..
اليوم, بكل معاني, ومضامين موقف (سلمان بن عبدالعزيز) المشع مع حجيج الجوار من القطريين تحديدًا استقبالاً لا مثيل له, وفسحا لصدور كل ما ينبض في هذه النفس الواحدة لهم,
قبل المعابر والطرق والحدود باختلافها, بالتنازل لهم عن التصاريح النظامية للحجيج, والنفقات الشخصية, وتقديمها رحبة لا أذرع تصدها, ولا وثائق تردها فإن لا تثريب علينا أن نتحدث عن أنفسنا بهذا الموقف الباذخ في حكمته, ووعيه, ورحابته, وقيمته, ومدلوله, ومعانيه.
أجل, يمكننا أن نتحدث عن أنفسنا..
هذا هو العمل المختلف لهذه البلاد عن جميع الدول سواء المسلمة, والعربية, والأجنبية في كل أنحاء المعمورة, الاستثنائي, الشاهد..
ليس فقط في احتواء ملايين الحشود لأيام محددة بشرعيتها, وإدارتها بحنكة, ونظام, وسلاسة, وأمن, وتغذية, ومأوى, ومواصلات, واتصالات, وتبادل مالي, وشراء, وقدوم وسفر في انسياب مختلفة تفاصيله, حيث يجند لها المسؤول في الطاقم الإداري, والإشرافي, والأمني, والخِدمي, والإسكاني, و, و, و.. بل في احتواء كل مقدرات يمكن أن يشعر معها أي حاج كأنه الوحيد عناية, وهو واحد في الملايين!
تُرى أوَ يكون باستطاعة غير هذه البلاد بلاد أخرى أن تقوم بهذه المهمة سنويًا لولا أنَّ خَدمَ بيت الله, وحجيجه يبذلون خبرة شاسعة, متجذرة على مدى الزمن بكل أمانة, وصدق, وعطاء خالص لوجه الله تعالى, وبما هو ماثل للعيان في حاضر مشرق من التوسعة لبيت الله الحرام, وتوفير جميع الخدمات, وتيسير مختلف الأطياف, والمواقف الناصعة مع كل المسلمين بمختلف طوائفهم, واتجاهاتهم, واختلافات ألسنتهم, وأفكارهم, ومذاهبهم, وآرائهم..
فلتتحدث نفوسنا ما شاءت عن هذا الشذى الذي ينتشر من هنا, فيعم أرجاء المعمورة, ويصدح أثره عن هذه الأرض التي تُنبت الخير, وتعمل للسلام, وتحتضن حتى من يعاديها, متجاوزة كل اختلاف لتقوم مخلصة بأداء ما كلَّفها الله تعالى, وخصها به من الأمانة, حين جعلها مهبط الوحي, ومنزل المسجدين, والمشاعر المقدسة, موئل ركنين من أركان الدين, إقامة الصلاة في المسجد الحرام, ومسجد رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام, وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا, وأداء الشعمرة اقتداء بسنة المصطفى اللهم صلِّ عليه وسلم, فقامت بالأمانة, وأدت الواجب, وستبقى ما للدهر بقاء بإذن ربها الأمينة القائمة على هذا التكليف خدمة, وتفانيا, وتفرُّدا..
اللهم وفق الحجيج واحفظهم, وكل من يقوم على شؤونهم..
واحفظنا أنت خير الحافظين.