خالد بن حمد المالك
لا نعرف منذ متى والدوحة تغرّد خارج السرب الخليجي العربي، فيما عدا البداية المعلنة في عامي 2013م و2014م ولاحقاً في عام 2017، حين قطعت العلاقات مع قطر، ثم أعيدت في الفترة ما بين 2013 و2014 بناءً على التزام الشيخ تميم بالتوقف عن ممارسات الأعمال التي استوجبت قطع العلاقات، ولأنه لم يلتزم بالتعهدات فقد قطعت العلاقات مرة أخرى عام 2017 مسببة بما قيل بأن عليه أن يقبل بالشروط الثلاثة عشر لإعادتها، ولما أمعن في الرفض، فقد زيد على قطع العلاقات، ولأول مرة، في قفل الحدود البرية والبحرية والجوية، وإيقاف أي تعاون بين قطر وكل من المملكة والإمارات والبحرين ومصر، بما في ذلك الزيارات المتبادلة للمواطنين والمسؤولين بين قطر وهذه الدول، لكن هذا الشرخ الذي أحدثته الدوحة في المنظومة الخليجية لا يمكن أن يحدد عمره بدءاً من العام 2013م، إذ من المؤكد أن محاولات كثيرة ورسائل متعددة تمت قبل ذلك بسنوات لثني قطر من الاستمرار في ممارسة ما يفهم أنها أعمال إرهابية تقوم بها ضد الدول الأربع التي ضاقت ذرعاً من المؤامرات القطرية.
* *
لكن أقسى الفترات الزمنية في التجاذب مع قطر، واتهامها بما هو ثابت عليها من حيث إيواء الإرهابيين ودعم الإرهاب والتحريض والتطرف والتدخل في شؤون هذه الدول، هي في الفترة الحالية، حيث مست إجراءات الدول الأربع مفاصل الدولة الصغيرة، ووصلت إلى العظم، بما جعل من نظام تميم يفقد القدرة في الدفاع عن براءته من نقاط الخلاف، ويبرئ ساحته من الاتهام، أو أن يتحرك بعقلانية وموقف شجاع لإطفاء هذه الموجة العاصفة التي اتجهت بقوة نحو الدوحة لاقتلاع كل ما كان يسيء إلى دولنا ويعرض أمنها للخطر، وكنا نظن أنه سيأخذ منها تجربة محفزة له في تجاوز هذه الإشكالية، وذلك بمد يده للدول الشقيقة المتضررة، متعهداً وملتزماً لها بأنه سيأخذ بخطها المعتدل وسياساتها غير المتآمرة في المستقبل، غير أن نظام تميم فوت كل الفرص، وأعطى ظهره لكل المبادرات، وتجاهل جميع الوساطات، وظن - على ما أعتقد - أنه بدولته الصغيرة، مدعوماً من أعداء الأمة، سوف يكسر كل إجراء أو قرار يمس السياسة القطرية المتهورة، دون أن يصل إلى قناعة بأنه لن يتجاسر ولن ينجح بفعل ذلك، إذا ما وصل الموقف الموحد لدى الدول الأربع إلى عدم التسامح أو العفو أو الانتظار كما يحدث الآن.
* *
وخطوة المملكة المهمة جداً التي قادها الملك سلمان، بوساطة من الشيخ عبد الله آل ثاني، ودعم من نائب الملك محمد بن سلمان، باستضافة الحجاج القطريين على نفقة خادم الحرمين الشريفين، واعتبارهم جميعاً ضيوفه شخصياً، وتوجيهه بإرسال أسطول من الطائرات السعودية قوامها سبع طائرات لنقل الحجاج القطريين من الدوحة إلى مطار الملك عبدالعزيز في جدة مجاناً، فضلاً عن فتح معبر سلوى البري الحدودي لمن يرغب السفر من الحجاج القطريين عن طريق البر، فقد نظر العقلاء إلى هذا الموقف الملكي على أنه نافذة لم يستغلها نظام تميم الاستغلال الصحيح، إذ بدلاً من أن يوجه شكره وتقديره لخادم الحرمين الشريفين، واستعداده لفتح صفحة جديدة مع المملكة وكل من الإمارات والبحرين ومصر، تنهي فيها الدوحة كل ما كان يمس هذه الدول من مؤامرات إرهابية، بإقفال نشاطها المشبوه، إذا به يطلق أبواقه الإعلامية المسعورة والسياسية المتهورة للتشكيك بالتوجيه الملكي الكريم، واعتباره وكأنه صدر لمآرب أخرى، رغم وضوحه، وعدم تسييسه، وجعله بمعزل عن كل الخلافات مع قطر التي استوجبت قطر العلاقات معها وإقفال الحدود بينها وبين الدول الأربع الشقيقة.
* *
لكن مع كل هذا، فقد تواصلت منصات ومواقع التواصل الاجتماعي وكل وسائل الإعلام تتساءل، هل يمكن أن تكون هذه الخطوة الملكية المهمة مدخلاً أو نافذة أو فرصة يُعتمد عليها في فتح آفاق أوسع للعلاقات مع قطر، ومعالجة الخلل الذي أصاب علاقة الدوحة بجيرانها وأشقائها، أو على الأقل أن يصاحبها تهدئة في التناول الإعلامي، وتبريد في الموقف السياسي، وأنا وإن كنت أتمنى أن يكون الجواب عن هذا السؤال إيجابياً، إلا أني لن أتردد في القول إن التوجه الملكي الكريم يمكن أن يساعد كثيراً في فتح المجال أمام معالجة شاملة للأزمة القطرية برمتها، وليس فقط لأزمة حجاج قطر، غير أن تعامل قطر واستقبالها للمبادرة الملكية لم يكن بمستوى هذا التفاؤل الذي أظهره البعض، فقد تم استقبال التوجيه الملكي الكريم بحملات معادية من قطر، حيث الريبة والشك والتخوف والتساؤل حول مغزى صدور هذا القرار المهم، بل إن هناك من الأبواق القطرية من فسره على أنه تراجع من المملكة عن مواقفها، وهزيمة لها، وانتصاراً لنظام قطر، مع أن القرار جاء مفسراً أسباب صدوره، وأهمها التوسط الأخوي من الشيخ عبد الله آل ثاني.
* *
ومع كل هذا، فنحن على يقين بأن قطر ستكون ذات يوم - قرُب أو بعُد - على موعد تاريخي مهم بأحداثه، تنتهي به ومعه عزلتها، ويتوقف عندئذٍ إرهابها وجرائمها، وتعود دولة شقيقة محبة للسلام، ولا تمارس عبثها وعدوانها ضد أي دولة شقيقة، ولا يرتهن القرار فيها للعدو، وتدار بأيدي وعقول أبنائها البررة لا من خلال هذه الدول والقواعد العسكرية والمنظمات والمجاميع والكيانات والأفراد والمؤسسات الإعلامية التي ألحقت أبلغ الضرر بالدولة الصغيرة، وحولتها إلى وكر للمؤامرات، وبيئة خصبة للمخططات العدوانية، ومصدر قلق لجميع جيرانها، وكأنها لا تخاف من مثل هذا العقاب الذي يتم الآن ضدها، ولا تفكر بأكثر من إرضاء أعداء هذه الأمة، إذ إن كل حساباتها وتقديراتها تقول بذلك، وسلوكياتها تتحدث به، بينما الوثائق والمستندات لا تعطي لها فرصة أو مجالاً لتبرئة نفسها، مكتفية بالنفي اعتماداً على أكاذيب لم تعد تنطلي على الشعب القطري الشقيق، فضلاً عن شعوب الدول الأربع، والعالم المحب للسلام.
* *
إذاً التفاؤل سيظل باقياً، وسنكون مع أهلنا في قطر بانتظار ذلك اليوم الذي تشرق فيه تلك الخطوات التصحيحية التي تعزِّز من مكانة قطر بين جيرانها، وتمكن الأشقاء الأقربين لها من التعاون والتفاهم معها، والابتعاد عن كل ما يسيء لأي منهم، وهو انتظار تفاؤلي وفي محله، إذ يمكن أن تبقى دولة قطر تعبث بها قرارات غير مسؤولة، وتدار بعقول لا تدرك خطورة أعمالها، وقد علّمنا التاريخ على أن التهور على نحو ما يتم الآن في قطر عمره قصير، وزمنه في تراجع، ونتائجه على مرارتها - وإن تأخر ذلك - تفضي إلى معالجة حقيقية ونهائية ولكنها ستكون سارة ومفرحة، وأن لا أحد من المخربين يمكنه أن يقف ضد الإصلاح، أو أن يكون حاجزاً أمام ما يريده المواطن، حتى ولو كان موقف هذا الأحد انتصاراً للإرهاب والفوضى والتطرف، وإمعاناً في العدوان، إلا أن يكون هذا مكابراً وجاهلاً، ولا يحسن حتى ممارسة المغامرات المحسوبة.
* *
في قطر التي أزعجنا حالها، وكدّر خواطرنا وضعها، ومسنا الألم ونحن نراها هكذا، لابد أن ننتصر لها بالكلمة الصادقة والرأي الحر والتدخل العاقل، وإشعار العقلاء فيها بما سيكون عليه وضعها إذا ما استمر النظام يدير البلاد على هوى إيران وغيرها، وأن تواصل إرسال الرسائل إليها، إنما هو حب منا لها وغيرة عليها، حتى وإن أغضب هذا شيوخها، حتى وإن قوبل ما نقوله عنهم بما لا يرضيهم، فنحن لا يمكن أن نخدع النظام، وأن نجامله، أو ننافقه، أو نتقرب إليه بالخداع والاحتيال والكذب، فهذه صفة الأبواق التي تقيم في قطر، وتقدم للنظام ما يرضيه، ويزيل عنه الكوابيس ولو لفترة قصيرة، لأنه نظام أصبح في حالة احتضار، أو أنه في غرفة إنعاش، ويقبل بما يصل إليه ولو كان ضاراً، بينما الأمر كان يمكن أن يكون غير ذلك لو أنهم عَقَلوا.