د.عبد الرحمن الحبيب
اخترق الإنترنت حياتنا بعمق أكثر من أية وسيلة معرفية أخرى، وبرز معها نوع جديد من نجوم في الشبكات الاجتماعية، وأطلق عليهم بالإعلام الرقمي «المؤثرون» الذين صار بعضهم يتناول كل مواضيع الحياة ويفتي بها قادحاً من رأسه! فإلى أين وصل هؤلاء؟
وصلوا إلى ثقة معجبيهم، وصار يُنظر إليهم كمرجعات في مجالات نشاطهم الإعلامي، فضلاً عن المردود المالي الضخم من المُعلِن. لكن ذلك يقابله ثمن قاسٍ! عبر جهد مضنٍ للمحافظة على إرضاء المعجبين ونشر كثيف للهاث وراء جذب الجمهور، لأنه بمجرد توقفهم لمدة قصيرة يتم نسيانهم، فهناك وفرة فائضة في عدد المؤثرين الذين يتزايدون يوماً بعد يوم..
هؤلاء المؤثرون نوعان: هواة جدد على الساحة ومشاهير كانوا نجوماً (من دعاة وسياسيين وفنانين ورياضيين ..)، يتشابه طرحهما في الشكل ويختلفان في المضمون. الشكل، غالباً، مرئي من مقاطع فيديو قصيرة سهلة الفهم لا تحتاج تفكيراً، تُعرض بطرق مثيرة للجذب (ساخرة، غريبة، صادمة، مبتكرة ..)، أو نص قصير يحمل نفس سمات المحتوى المرئي..
الهواة ينتجون محتوى في تخصص معين ويقومون بتحديث متكرر، أما المشاهير فيعتمدون على شهرتهم السابقة ويدخلون في شتى المواضيع. وإذا كان جمهور المشاهير أوسع من جمهور الهواة فإنّ المستخدمين (الجمهور) يثقون بالهواة أكثر لأنهم يركزون على مواضيع معينة (كوميديا، صحة، طبخ، أغذية، تجميل، أزياء، رياضة ..). وقد لاحظ المراقبون أنّ الحملات التسويقية للإعلان التجاري التي تقوم على شعبية المشاهير تشهد تفاعلاً أقل وعائداً منخفضاً (تقرير نادي دبي للصحافة، 2017). هذا يجعل المعلِن يحتار بين خيارين: القاعدة الجماهيرية الأوسع (المشاهير)، أم التفاعل الأكبر (الهواة)؟
فكيف يجني المؤثرون حصاد نجوميتهم مادياً؟ من خلال وكالات تسويق متخصصة مثل «الشبكات متعددة القنوات» أو مباشرة كما تفعل يوتيوب التي تعطي نسبة من عوائد المشاهدة (الثلث تقريباً) للمؤثر، حسب عدد المشاهدات أو قيمة تتراوح بين 1.5 و 3.5 دولار لكل ألف مشاهدة. لكن لا يوجد مقياس منهجي واضح لتحديد سعر المؤثر، ومستوى تأثيره. المقياس المستخدم حالياً هو عدد المشاهدات، لكن هذا المقياس أدى لرفع أجور المؤثرين بنسب غير متوافقة مع الفائدة من الإعلان (تقرير نادي دبي).
المشاهير استفادوا أكثر كثيراً من الهواة بهذا المورد المالي الجديد الضخم عبر عائدات الإعلان. كما أنه هذه الطريقة الجديدة أتاحت لهم شهرة أوسع عبر التفاعل المباشر مع جمهورهم أكثر مما كان عليه الأمر بوسائل الشهرة التقليدية، حين كانوا يضطرون للمرور عبر مؤسسات الإعلام التقليدية واشتراطاتها.
لكن هؤلاء المشاهير أمام فخ جديد وصادم على حياتهم الشخصية والأسرية.. حيث تتدفق أخبارهم الجيدة والسيئة، الحقيقية والزائفة، وقد ترسم صورة مناقضة لنجوميتهم نتيجة أي زلة غير لائقة أو تصرف غير محسوب أو مشهد مجتزأ من سياقه، على خلاف ما كان عليه الوضع عندما كانت صورة النجم تمر بمرحلة تنقيح عبر الوكالات التقليدية المحترفة. كما أنّ جمهور المستخدمين صار له حرية كاملة في الخوض بتفاصيل خصوصيات النجم المدلل، والتعليق بأشد درجات السخرية..
صار أكبر عامل يحدد النجومية بالإنترنت هو تفاعل الجماهير. هنا دخل عامل أساسي، وهو أنّ كثيراً من الناس أصبح يقيّم جودة العمل بعدد المشاهدات والتعليقات والإعجابات. صار المستخدمون يتفاعلون مباشرة مع المؤثرين الذين يتعلقون بهم من ذوي العقلية التي تشبههم، بطريقة لم يسبق لها مثيل، وصارت الناس تتكتل في مجموعات متشابهة. ذلك خلق حالة استقطاب مجتمعية، خاصة أن المؤثرين يجاملون معجبيهم بمزيد من حدة الطرح لجذبهم.. هذا عامل أساسي أدى لحالة الاحتقان الذي نشهده خاصة في تويتر.
هذا أيضاً -من ناحية أخرى- دعم الثقافة المحلية الشعبية في المجتمعات العربية. ويتميز السعوديون بنشاط لافت في يوتيوب وتويتر، الأول يشاهده الملايين يتميز بالمقاطع الفكاهية والثاني بتغريداته السياسية والاجتماعية.. فمثلاً برنامج «إيش اللي» الفكاهي فيه أكثر من 2.7 مليون مشترك. أغلب هذه الأعمال لا تغطيها وسائل الإعلام التقليدية من صحافة وتلفزة لأنها ذات أجندة وطنية أكثر شمولية وطبيعة مختلفة، بينما طبيعة المحتوى في الإنترنت تختلف من ناحية الوتيرة والشكل والمدة عنها في وسائل الإعلام التقليدية. وقد انتبهت محطات التلفزيون الرئيسية لأهمية المؤثرين وصارت تحاول دمجهم فيما يسمى بتلفزيون الواقع.. مثل برنامج «الليلة» لبدر صالح صاحب برنامج «إيش اللي» وبرنامج «نون النسوة» لقناة إم بي سي، وبرنامج «الأخوات» بقناة روتنا (تقرير نادي دبي).
الخلاصة أنّ أعمال نجوم الإنترنت شاركت بفاعلية في تشكيل ثقافة جديدة من خصائصها أنها ثقافة استهلاكية سريعة تتأسس على أفكار شخصية مثيرة، وانفجار لمعلومات مختصرة ومجتزأة وغير موثوقة (تويتر نموذجاً)، مع سيطرة ثقافة المشهد (يوتيوب نموذجاً). ذوق الجمهور هو العامل المحدد لجودة ومصداقية الأعمال وليس الموضوعية، مما أجج حالة الاحتقان والاستقطاب. هذه الثقافة تتجاوز حدودها الاجتماعية إلى آفاق تجارية.. فالذي يعطي استمرارية هذه الأعمال لجذب الجمهور هو تمويل الإعلان التجاري.. في نهاية المطاف، الإعلان هو المحرك الرئيسي لأعمال نجوم الإنترنت سواء علموا بذلك أم لم يعلموا..