د.فوزية أبو خالد
لا بد أنه قد حان الوقت ونحن نرى انطلاق الكلمة المكتوبة سواء كانت كلمة صحفية أو أدبية من عقال سيطرة الصحف الورقية إلى فضاءات المواقع لإلكترونية، بل نحن نشهد تحول عدد من كبريات الصحف العالمية والعربية إلى فضاء العالم الافتراضي، لطرح ذلك السؤال المشروع المؤجل وهو سؤال استقلالية الصحافة بالمجتمع السعودي.
وإذ كانت القراءات الاجتماعية - السياسية في التاريخ العالمي المعاصر قد رأت في الصحافة السلطة الرابعة كمعادل مجتمعي محض لمشترك سلطات الدولة والمجتمع المتمثلة في السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وسلطة القضاء في جدلهما مع بعضهما بعضًا وفي استقلالهما المفترض عن بعضهم بعضًا في بنية الدولة الوطنية الحديثة، فإن استقلالية الصحافة عن كافة أشكال السلطة الرسمية كممثل لصوت الشارع ولأشواق النخب الاجتماعية والسياسية والمهنية ولأحوال العامة بأطيافها المتعددة كان وما يزال هو المبرر الجوهري لوجود الصحافة. كما أن ذلك كان وما يزال هو المنشود الوجداني واللازمة الفكرية والشرط القانوني والإطار الموضوعي لوجود صحافة حرة ومسؤولة.
وبناء عليه كان من حق الصوت الرسمي أن تكون له صحفه وصحافته وكُتابه وطروحاته، بل جهازه أو أجهزته الإعلامية المتكاملة ليمارس عبرها إنتاج الخطاب الرسمي وليقدم من خلالها مختلف أخباره وتحركاته، بل ورؤاه من مراسيم القرارات الإدارية العليا إلى تفاصيل أخبار الزيارات والاستقبالات الدبلوماسية والعادية إلى التصريحات والخطب المهمة فيما يخص الإنجازات والوعود والمواقف، ليقوم بواسطتها وبمنتجها المعرفي والإخباري بتشكيل القناعات وصياغة رأي عام حول موضوعات بعينها، خاصة تلك الموضوعات الجدلية، بل وأيضًا للقيام بتلك العملية المستدامة للحفاظ على المسلمات والطاعات التي تعيد إنتاج شرعية السلطة وتعيد ترميم ما قد يتقادم منها أو يتعرض لتحدي المتغيرات.
فجريدة أم القرى على سبيل المثال لعبت هذا الدور أو بالأحرى أنيطت بها هذه المسؤولية من عام 1343هـ 1924م، أي منذ مطلع العهد السعودي على يد مؤسس وموحد الدولة السعودية الثالثة المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز إلى اليوم، لتكون هذه الصحيفة تعبيرًا عن الصوت الرسمي بثوابته وحراكه وبمراسيمه الملكية وقراراته الوزارية على أعلى مستوى من مستويات السلطة التنفيذية ممثلاً بمجلس الوزراء، وبمنجزات النظام السعودي السياسية والتنموية معًا.
غير أن الملاحظ أن هذا الدور لم يقتصر على تلك الصحيفة ولكن جرى توسيعه تاريخيًا بمد وجزر متفاوت نسبيًا حسب حقب التاريخ السعودي الممتد اليوم لقرن إلا سنوات قليلة وحسب خصائص العهد لكل ملك من ملوك المملكة العربية السعودية، بل جرى تعميمه على كافة الصحف السعودية بأنظمتها المختلفة أي حين كانت صحف أفراد (1351- 1379هـ 1932-1959) وبعدما صارت صحف مدمجة إلى أن آلت إلى صحف مؤسسات مع عام 1383هـ 1964م إلى التاريخ الراهن.
ومع أنه صدر عام 1322هـ 2001 م نظام ثانٍ للمؤسسات الصحفية حاول الاستجابة نسبيًا للمستجدات العصرية بتلافي القصور القانوني في اللوائح القديمة لنظام المؤسسات وبمحاولة التخفيف قليلاً من قبضة الرقابة على الصحف وبالرفع قليلاً من سقف الحريات، فكان من ذلك مثال الحد ولو بشكل محدود من سلطة وزارة الثقافة والإعلام وإنشاء هيئة نقابية للصحفيين وإلغاء لجنة الإشراف على مواد التحرير، فإن الوضع القائم اليوم وخصوصًا مع الثورة التكنولوجية العارمة والطوفان المعرفي والإخباري عبر مختلف المنابر الإلكترونية والقنوات الفضائية وما يسمى بالسوشل ميديا أو وسائل الاتصال والتواصل الجماهيري الموسع العام لا يجعل من الصحف المحلية بالسعودية جبلاً يمكن الاعتصام به من هدير ذلك الطوفان ما لم يصلح شأنها من حيث المحتوى والشكل ومن حيث الاستقلالية والحرية. ونظرًا لغياب كل ذلك أصبحت الصحف اليوم تئن من وطأة سحب بساط نفوذها وتنفذها في منافذ الكلمة ومنافذ التعبير عن الحراك الاجتماعي والمنشود السياسي، وإن كان ذلك لم يكن ليكون موجعًا أو يُعبأ به لولا تساوق ذلك مع التراجع في حجم الإعلان التجاري الذي عادة ما يشكل مصدر الدخل الرئيس للصحيفة. ولا أظن إلا أنها مقارنات مكانيكية خالية من المضمون ومن المنهجية الموضوعية للمقارنة حين نعزي النفس في الانفضاض عن الصحف المحلية والمحلية- الدولية مما يصدر عنا أو بتمويلنا، بالقول: إن كبريات الصحف العالمية تعاني من نفس الظاهرة وإلا لما أغلق بعضها منافذه الورقية تمامًا وتحول للفضاءات الإلكترونية مثل الصحيفة الأمريكية الرصينة التقدمية كريستين ساينس مونوتر وصحيفة الإندبيندنت البريطانية وسواهما.
إذن فالدولة والمجتمع اليوم وليس الصحافة الورقية المحلية بطابعها الرسمي وصوتها الرسمي ورسالتها الرسمية ورؤيتها الرسمية تواجه تحدي المتغيرات ويصعب أن تواجه التحدي بالصحف الرسمية وحدها وخطابها الأحادي عينه الذي لا تكاد تبين فيه كتابات الرأي المستقلة إلا بأريحية وشجاعة، إن لم يكن مخاطرة هذا أو ذاك من رؤساء التحرير، ومن خلال فجوات الأخبار المحلية والدولية البائتة التي تكون قد سبقتنا إلى نشرها، بل وتحليلها ونقدها أو تعزيزها منافذ الأخبار والمعرفة الإلكترونية والفضائية.
إن الصحافة بوضعها القائم اليوم في خطر. وللخروج من دائرة الخطر لا بد من العمل على جبهتين إن صح التعبير. إحداهما الحفاظ على وقار ووجود الصحافة الرسمية بإقرار أنها صحافة رسمية وحسب ومعالجة إشكالياتها ضمن طبيعتها. إما الجبهة الثانية التي لم يعد بالوسع تجنبها فهو فتح المجال لإصدار صحف مستقلة عن سطوة وسلطات وزارة الثقافة والإعلام أو سواها من جهات رقابية مكبلة، مع تحرير بعض الصحف المحلية الراغبة في الاستقلال من ربقة الوضع القائم. وهذا الفسح أو التصريح بصحافة مستقلة قد يكون حلاً لصحافة تختار شكلها الورقي أو الرقمي أو الجمع بينهما ولكن بشرط الحرية وبشرط تحليل المحتوى فلا تكون مجرد مجتر لأنباء الحدث السياسي، بل محلل له ولتكون تعبيرًا عن أطياف المجتمع وتعدد أصواته في قضايا السراء والضراء.
في عام 1422هـ- 2001م صدر ثاني نظام للمؤسسات الصحفية، وهو نظام معدّل للنظام السابق، وقد راعى النظام الجديد معالجة القصور والنقص والثغرات في النظام السابق، ليلبي ويستجيب لمتطلّبات المرحلة الحالية، أن أبرز ما في النظام الجديد في نسخته المعدّلة، أنه خفف من سلطة وزارة الثقافة والإعلام، وتبنى إنشاء هيئة للصحفيين، ونص على إيجاد مجلس إدارة في المؤسسة الصحفية، وألغى لجنة الإشراف على التحرير، كما ألغى شرط أن يكون المدير العام ورئيس التحرير عضوين في المؤسسة الصحفية، وسمح بتعيين المدير العام دون الحاجة إلى أخذ موافقة وزارة الثقافة والإعلام، ونصوص أخرى تحمي الصحفي من إجراءات الفصل التعسفي، مع معالجة الازدواجية في عضوية المؤسسات الصحفية، فضلاً عن أن النظام الجديد ألزم المؤسسات الصحفية بوضع الهياكل واللوائح المنظمة لسير العمل فيها.