د. جاسر الحربش
مصطلح الدولة العميقة يعني التحالف الضمني بين القوى المعطلة للتحول في نفس الدولة الوطنية. هي في الواقع تكون خارج المسؤوليات المباشرة، ولكنها تجمع من بقايا المسؤوليات السابقة بالإضافة إلى بعض المستفيدين منها آنذاك. التحالف بين أطراف ما يسمى الدولة العميقة «ضمني» بمعنى أنه ليس مخطط له وليس له كيان تنظيمي متفق عليه. للتوضيح يستحسن استحضار مثال من الحياة العامة. لنفترض مؤسسة تجارية لم تعد تحقق الأرباح ومهددة بفقدان القدرة على المنافسة فأصبح إنقاذ المؤسسة يفرض تغييراً إدارياً أفضل.
إحداث التغيير الإداري الجزئي عندما يبقي على بعض الإداريين التنفيذيين والموظفين السابقين لن يكفي. بعض هؤلاء يعرف أن بقاء الأوضاع القديمة كان يحقق له فوائد شخصية غير مستحقة أكبر. النتيجة تكون التراخي في تطبيق لوائح المؤسسة الجديدة والتسيب في التعامل مع الجمهور والزبائن إلى آخر الوسائل التعطيلية. يمكن حدوث ذلك دون سابق تخطيط أو اتفاق بين هؤلاء الأفراد المتناثرين داخل المؤسسة، أي بتطابق الاتفاق المصلحي الضمني. هذا هو المتوقع حدوثه كردود أفعال من الدولة العميقة عند بدء أي تحول اقتصادي جديد.
عندما أشرف الرئيس الصيني ماوتسي تونج على الوفاة وسبقه إلى ذلك معظم رفاقه تحركت الدولة العميقة في الحزب الشيوعي الصيني وسببت موجات شغب واضطرابات واسعة أربكت الصين وأخرت التحول لعدة سنوات. كان معظم المدبرين لعملية الإرباك -آنذاك- من كبار المتنفذين في الحزب الذين استغلوا حصانتهم الحزبية فتحولوا إلى ملاك وتجار كبار من خلف الكواليس. ما جمعهم ضمنياً كان الخوف من محاسبتهم وفقدان مكتسباتهم، لمعرفتهم بأن الكوادر الشابة في الحزب تنوي التخطيط لاقتصاد صيني إنتاجي جديد بكفاءات إدارية غير ملوثة بالتنفع البيروقراطي.
الارتباك الحاصل حالياً في الإدارة الأمريكية والمستمر منذ الحملات الانتخابية العدوانية والاتهامات المتبادلة بالفساد، هو من أفعال الدولة العميقة. رؤوس هذه الدولة العميقة غير مرئية أو محددة بالأفراد، لكن ما يجمعهم ضمنياً هو الخوف من استيلاء العبقريات من غير البيض على المراكز والأموال والمسؤوليات الكبرى. إنذارهم الأول كان وصول رئيس أسود إلى الرئاسة، وما هو أهم من ذلك كان سيطرة العقول الهندية والآسيوية على مراكز وشركات المعلوماتية.
ما يهمنا نحن في منطقتنا هو أن التحول المبرمج في الخطط التحولية الجديدة سوف يواجه حتماً بمقاومة الدولة العميقة. قسم صغير أو كبير من المعلمين في المدارس والجامعات على سبيل المثال سيتعامل مع محاولات التطوير في التعليم بطريقة الدولة العميقة، ونفس الشيء سوف يحدث في التعامل مع مشاكل الإسكان وفي توظيف الكفاءات القادمة من البعثات الخارجية، وأترك بقية الاحتمالات لتفكير القارئ. لكن ما هي أكثر أطراف الدولة العميقة قدرة على التعطيل؟.. إنها البيروقراطية الحكومية المتجذرة التي يصطدم بها المواطن في كل مكان. الموظف الذي يعمل بناتج ساعتين فقط في اليوم مقابل راتب الشهر الكامل، هذا كيف تقنعه برفع إنتاجه إلى مستوى ثماني ساعات كواجب وطني وتحرمه من التكسب الخفي؟