عبدالعزيز السماري
يختلف تعريف مصطلح السياسة من ثقافة إلى أخرى؛ فالمعني في الثقافة العصرية مستمد من إدارة أحوال السكان، بينما في ثقافة التراث تعني سياسة الرعية، وهو مصطلح عام، تشوهت مبادئه ومفاهيمه عندما تحولت حياكة المؤامرة والتدليس والتلاعب بالأفكار والمواقف والمبادئ إلى سياسة وحنكة..
لذلك أعتقد أن المعاني لا يمكن فهمها مباشرة من تعريفات القاموس اللغوي، ولكن من ثقافة البشر؛ فالأمر يختلف من مكان إلى آخر حسب فهم الثقافة المهيمنة؛ وذلك لما لها من تأثيرات في فرض معاني الأشياء، ومهما يكن المعني تخفي الظواهر السياسية خلفها وفي باطنها أحوال البلاد وعلامات الاستقرار والنظرة حول المستقبل.
ولو حاولنا الابتعاد قليلاً عن الكرة الأرضية، ثم مراقبة معدلات الضوضاء السياسية في العالم، سنلاحظ أنها تكاد تكون غائبة في شمال الكرة الأرضية؛ فالضوضاء السياسية غائبة تمامًا، وتم استبدالها بإدارة تجيد مهارة العمل في الهدوء، ومهمتها إدارة أحوال السكان وتأمين متطلبات الحياة الضرورية، والعمل على تحسين معدلات الرخاء والعمل والتعليم والصحة والتأمين الاجتماعي بين السكان..
إن النجاحات العديدة التي حققتها بلدان الشمال الأوروبي ليست معجزة، بل ولدت من مزيج من العوامل، من أهمها قبول مبدأ المصالحة أو التواضع اللوثري، وهيمنة حضارة الفلاحين مقابل البداوة، وخلفية استقرار البيئة الجغرافية، ومبدأ البراغماتية القاسية. والبراغماتية مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة. وبراغما تعني العمل، وليس الخداع.
بينما ترتفع الضوضاء كلما اتجهنا جنوبًا، وتصل إلى معدلات في غاية الصخب في المنطقة العربية، لدرجة أن الخطابات السياسية تطغى على كل شيء، فالميدان مخصص فقط لمن يجيد مهارة اللعب السياسي، ولمن لديه القدرة على المشاركة في صراع الموت والحياة على الأرض العربية.
ولهذا السبب يتجه المقاتلون والمهووسون بالعنف إليها؛ فهناك لا توجد ثقافة للسلام والعيش المشترك، ومن أراد البقاء فعليه إجادة فنون الصراع والاقتتال.. في الشرق العربي تغيب فكرة المصالحة بين القوى المتصارعة، فالسياسي هو من يتمسك برأيه إلى آخر قطرة من دمه، ولا نحتاج إلى أدلة، فالشام يحترق بسبب إصرار السياسي على رفض فكرة المصالحة أو التنازل من أجل مصلحة الأمة..
كذلك ترفض المذاهب الدينية والطوائف المصالحة مع الآخر المختلف في المجتمع نفسه؛ مما يجعل المجتمعات في حالة صراع دائم، وهو ما يجري بوضوح تام في دول العراق ولبنان وغيرهما.
الخلاف ليس حول الحقيقة الدينية، ولكن خلاف له علاقة بالسلطة والمال؛ ولهذا السبب لا تتغير الزعامات الدينية والسياسية؛ فالحال لم تتبدل منذ عقود، بل وصل الأمر إلى أن يتوارث أبناء زعماء الطوائف مناصب المرجعيات الدينية.
في الشرق العربي تلاشت حضارة الفلاحين بسبب أزمات المياه والتصحر، وهو ما دفعهم إلى التحول إلى مجتمع البداوة بمعناه الثقافي. كذلك تغيب البراغماتية في الشرق العربي؛ فالنجاح السياسي لا يأتي من فكرة نجاح العمل، ولكن من القدرة على الصراخ أكثر وفرض القوة وهيمنة الرأي الواحد..
أيها السادة، يعيش أغلب العرب في ضوضاء سياسية صاخبة، لكنها أقرب إلى حال الجعجعة بلا طحن، ويعني ذلك جهدًا بلا إنتاج أو عمل؛ وهو ما يجعل من المنطقة تفتقر إلى أبسط أبجديات الأمن السياسي والمعيشي، وتكون بيئة طاردة لسكانها في اتجاه الشمال.