د.علي القرني
عندما لا يكون هناك صوت نسمعه، ولا كلام نقرأه، ولا أحداث نراها، ولا حروف نجمعها، ولا إشارات نلتقطها فنحن نعيش في عصر لا يمت للإعلام بصلة أبدا، أي أننا نعيش في عالم ما قبل الإعلام. وجرعات الإعلام على البشرية تدرجت، فنحن نعد عصر الاتصال الجماهيري قد بدأ من منتصف القرن الخامس عشر الميلادي مع اكتشاف المطبعة من قبل يوحنا جوتنبرج، حيث بدأ العالم يكتشف الإعلام المقروء من خلال دوريات حولية أنتجتها مثل هذه المطابع.
ثم تطورت الاختراعات الاتصالية، وبدأنا ندخل عالم الإعلام والاتصال تدريجيا، فمع اكتشاف مخترعات كالراديو والتلفون والبرقيات ثم التلفزيون بدأنا ندخل عالما حقيقيا ومتنوعا من الشكل الاتصالي، وبدأ العالم يتذوق فنون الإعلام وأشكاله وأنواعه، ولكن اختراع القمر الصناعي الذي يحلق فوق رؤوسنا وتوظيفه في خدمة الاتصال بكافة أنواعه، وخاصة الفضائيات التلفزيونية كان نقطة تحول كبيرة، حيث أصبح العالم قرية صغيرة نستطيع أن نتواصل فيها وبسرعة فائقة الصوت.
أما الاختراعات التي أذهلت البشرية فهي الإنترنت وملحقاته، لكونه استطاع أن يكون هو أم الإعلام الذي احتوى كافة أشكال وأنواع الإعلام، وأصبحنا ندور في فلك الإنترنت، ونجوبها ويجوبنا. وبهذا نكون نحن في هذا العصر، وربما البشرية في تاريخها وصلت إلى نقطة تحول نوعي غير مسبوق في مجال الإعلام والاتصال. ونحن نعيش اليوم وغدا هذه الحقبة الاستثنائية من تاريخ الاتصال الكوني.
واذا أمعنا النظر في عمق هذه التجربة الانسانية، ونوعيتها، ومحورية تأثيرها لن نستطيع أن نستوعب الحجم الهائل الذي خلفته سلبا وإيجابيا على المكون البشري في هذا الكون، أيا كان موقعه، وأي كان وضعه وواقعه. وإذا تعمقنا أكثر فلعلنا نفكر باستشراف نحو المستقبل، ماذا عسانا نرى في المستقبل من مخترعات ومكتشفات وحقائق جديدة قد تضيف أو تغير المسار الإعلامي للبشرية جمعاء.؟
عندما ننظر إلى المخترعات الاتصالية الإعلامية في تاريخ البشرية سنرى أنها في نمو وزيادة وتطور ولم نر مرحلة عودة إلى الوراء، بل تقدم إلى الأمام. وهذا يعني أن الحقبة الاتصالية التي نعيشها اليوم ستبقى بكل تأكيد، ولكن ربما نسأل إلى أين سنسير في هذه الخضم الهائل من التطورات التي اجتاحت العالم، وخاصة في القرن العشرين الذي مضى، وهذا القرن الحادي والعشرين الذي نعيشه اليوم؟
وربما السؤال الاستشرافي نحو المستقبل، هو هل وصلنا إلى المدى الأقصى في المخترعات الاتصالية في هذا الكون، أم أننا لا زلنا على أعتاب مراحل نوعية من أنواع وأشكال الاتصال؟ أم - وهذا سؤال تشاؤمي - قد يعود التاريخ إلى الوراء ويسحب منا بعض استحقاقات المرحلة الحالية ويعيدنا إلى خطوات ماضية في تاريخ الاتصال؟ طبعا لا يعلم هذه الحقائق إلا خالق السموات والأرض وهو الذي هيأ لهذا الكون أن يعيش في هذه الحقبة.
ولكن يظل السؤال مشروعا، ومحفزا للتفكير، وباعثا فينا الأمل والتفاؤل دائما، أن الإعلام والاتصال هو مسار للبشرية والتاريخ، ولا يمكن أن يعود التاريخ إلى الوراء، بل دائما يمضي نحو الأمام، ونحو التطور والتقدم دائما. ولهذا فنحن نسأل: إلى أين سنمضي في زخم حقبة الاتصال والإعلام خلال هذا القرن الجديد؟ وسؤالنا المشروع هو سؤال استباقي لما قد يحدث للبشرية من تطورات جديدة. ونحن ندرك أن العقل حاليا لا يستوعب تخيلات جديدة في مجال تطورات نوعية في التقنية الاتصالية؟ وكل هذه المكتشفات والمخترعات كانت عبارة عن وجود خارج نطاق الإنسان ذاته، ولم تكن جزءا من مكونات الإنسان؟ فهل يمكن أن تكون المخترعات الجديدة هي مخترعات تدخل في نطاق الإنسان في جيناته وسلوكياته وعقله؟ بمعنى هل سيأتي يوم ما ويصبح داخل الإنسان تقنية اتصال وإعلام تقوم بعمليات فك الشفرة الاتصالية، ولا داعي - على سبيل المثال فقط - أن يكون لدينا ريسيفر خارجي لفك الشفرة الإعلامية، بل يصبح مثل هذا الريسيفر داخل الجسم الإنساني يتم ابتلاعه أو زرعه داخله؟ مجرد أسئلة استشرافية مشروعة نحو المستقبل..