د. حمزة السالم
العقل لا يُترك بغير عقال ولا خطام. فلا يُؤمن على عقل من جنون، والجنون أنواع منوعة. لذا أحرص دائما على عرض عقلي لمن أثق به، لتقييمه، واكتشاف أي بدايات انحراف لشطوح أو جنون.
وقد جاءني تقييم للكتاب الذي قارب أن يرى النور، من فليسوف شيخ قد تخصص في أصول الفقه، وكتب رسالته في فلسفة الاقتصاد، درس من خلالها فكر ماركس وأثره على الرأسمالية. فبعد مقدمة فكرية طويلة، في بيان أصول البناء الفكري عند الماركسية وأثرها الإيجابي غير المقصود منها على الرأسمالية، قال:
سيقول القارئ ما علاقة كل هذه المقدمة الطويلة عن موضوعات مختلفة بمسودة كتاب الدكتور حمزة السالم، أو ما يقدمه هذا الكتاب فكرنا الإسلامي - هذا الكتاب الذي عكفت عليه أكثر من 130 يوما، ورافقني في حلي وترحالي أينما كنت حتى هذه اللحظة - فسأجيب باختصار: إن ما قدمه ماركس من خدمات - دون أن يدري أو يقصد - (للرأسمالية التي رهن عمره لنقضها) - ساعدت على جعلها تسيطر على هذا العالم الذي نعيشه اليوم، بتخليصها من كل ما كان يشوبها، وأضاف لها كل ما كان ينقصها، يستطيع أن يفعله هذا الكتاب لا كماركس (وخدمته للرأسمالية عن غير قصد)، بل إن هذا الكتاب يفعله عن قصد ودراية وعلم ووعي وتربّص.
إن ما يقدمه هذا الكتاب أنه يكشف لنا ببلاغة ووضوح وسلاسة، بمنطقه العلمي والأصول التي يستخدمها في تفنيد ونقد وتفصيل فهم الفقهاء للربا، نماذج علمية لا غبار عليها ترينا مكامن الخلل الذي اجتاح علوم الدين ككل، وهي هذا الخلط بين الطريقة التقنية للوصول للعلم وبين العلم كحقيقة بذاته. والذي يُعدُّ أبرز خلل، سبب فهم بعضنا الخاطئ للدين على مدى 1200 عام مضت.
إن الكتاب وعلى الرغم من أن هدفه الأساسي كان بيان حقيقة الربا وتفصيل هذه الحقيقة من كل جوانبها، إلا أنه قدم لنا نافذة لا تقل شأناً وعظمة بفوائدها عمّا فعله الشافعي في تحديد أصول الفقه كتقنية علمية منضبطة، تسمح لنا بأن نتفق على أن نضبط بها طرق البحث الفقهي لنثبت صحّة النتيجة الفقهية من عدمها.
فهذا الكتاب وللحق يمنحنا بعبقريته، فرصة لإعادة ضبط الطرق العلمية في علوم الدين والآليات المنطقية المنضبطة للبحث الفقهي، ليسمح لنا أن نتخلص من كل ما تراكم في عقولنا كمسلّمات باتت لا تقبل الجدل بأصول لا تلغي أصول الشافعي بقدر ما هي تزيدها انضباطا وتصفيه من كل شوائبها.
إن هذا الكتاب يقدم لنا منهجا علميا واضحا وآلية بحث منضبطة عقليّا ومنطقيا، لإعادة فتح ملفاتنا الفقهية كما فعل الشافعي في حينه تماماً.
إن إعجابي بهذا الكتاب ليس في ما يخص موضوعه الأساسي - رغم انه اشغلني ثماني سنوات، (أقصد الربا كموضوع مهم توقف بسببه إنتاجنا الاقتصادي كأمة قادت الأمم على مدى ثلاثمائة عام من صدر الإسلام) - لم ينحصر فقط على تفريقه بأدق التفاصيل بين ما هو ربا وما هو ليس بربا ومتى يكونان كذلك، ولم ينحصر إعجابي به أيضاً على وضعِه منهجا علميا لاقتصاد إسلامي متكامل، لكونه الوحيد الذي شرح بشكل علمي ما هي مداخل ومخارج «أكل المال بالباطل» والفرق بينه وبين ما هو ليس بباطل حتى من النواحي المعنوية والنفسية بين المتعاملين، ثم ليقدم الحلول الكاملة لإغلاق هذا الباب الخفي نهائيا على قدرة خباياها على السيطرة والاستغلال لما تبقّى، مما هو تعاملات وعمليات اقتصادية شرعية ليس لها علاقة بالربا، ولتغدو لدينا قواعد علمية كاملة نستطيع أن نستخرج منها قوانين وأنظمة وحتى حلول استثمارية لم نكن يوما لنفكّر انه من الممكن أن تكون إسلامية، وهو أمر يجعل هذا الاقتصاد متكاملا روحيا ومعنويا وعلميا وقانونيا والأهم فقهيا.
لكن إعجابي الشديد به تعدى - في الحقيقة - لحبكه المتقن لكل ما فات في الفقه وضبطه، مما يمنحنا مدى واسعا من الفرص لإعادة تطبيق كل ذلك فيما يخص كل علوم الفقه ومسائله الأخرى.
إن ما يقدمه الكتاب لنا هو لكل ما يخص الدين والفقه كفرصة شاملة لإعادة إحياء أمة تعرف دينها لتنطلق بلا حد بعد ذلك. وللتقييم خاتمة تكون مقال يوم السبت.