د. خيرية السقاف
ضمن أبجدية نلثغ حروفها قبل أن تستوي الكلمة تامة في مخارج ألسنتنا نتعلمها..
نُلقن واجباتها, شروطها, وأركانها..
تنزل في الجوف بكلِّها, مبنى ومعنى, نحسُّها, نتقمّص أداءها فيما تلهو بنا مخيلاتنا,
هذه المركبة تأخذنا لمشارف البدء, وتلك الملابس تحتوينا في لفَّة الطُّهر..
نتراكض حفاة نلملم الحصاة من عند مداخل بيوتنا, نقلِّد آباءنا كيف يُحرِمون, وأمهاتنا كيف يعددن الزاد, والكعك, ونشدّ الرحال «للحج»..
الأرض تتسع لنا كأنها الفضاء ونحن سرب عصافير في قبضة الرحمن بأجنحة بيضاء..
صحن الطواف يتحول في ركضنا لأرض شاسعة نحلِّق فوقها بأرواح خالية إلاّ من الفرح..
الحجُّ هنا, موعد مع الفرح, ورائحة الكعك, ودمعة الدعاء..
وحِجر أمهاتنا مبيتٌ دافئ لرؤوسنا, مضمار واسع لأحلامنا..
ومرمى عيونهم ساحاتنا ومساحات بهجتنا..
في كفوفنا تنزل» العيدية» حلوى, حفناً من نقود, قطعاً من ذهب, وفي أجمل ما تكون, حين نُحمل على الأكتاف لنقبِّل الحجر الأسود, ولنمنح ما فيها لطوَّافٍ على ساقيه, أو لآخر يتوكأ عصاه, أو لمن يزحف على ركبتيه..
صحن الطواف ملتقى نخزِّن عنه في الجوف النبضة, والفرحة, والدمعة,
والأسئلة الكثيرة الكثيرة..
فإذا ما أمسكت بنا أيديهن لنتجه صوب الوقوف أمام الملتزم, ليصلين ونقلدِّهن,
كنا نبتدرهن بالأسئلة التي لملمناها فيما جمعناه ونحن نطوف..
كان صحن المطاف تحت أقدامنا ملمحاً لأرض الجنة النقية, يلمع أمام نواظرنا كبرق في ليلة مطيرة..
كملاك يأخذ أدعيتنا, وتلك الأسرار الصغيرة في صدورنا إلى الرب..
هنَّ علمننا أنّ هناك سرَّاً في الصدر علينا أن نجعله بيننا وبين ربِّنا, وغاية ما يكبر سرُّنا الذي نودعه للملائكة أن «يحفظ الله لنا «ماما».. و»بابا».. الدنيا الكبيرة التي نعرفها, نحبها, ونستقي..
في المكان النُّـوراني الذي ترفرف فيه صدورنا, وأيدينا, وبالكاد تستقر أقدامنا نتابع بعيوننا تلك الفراشات في فضاء المسجد تتطوّف في بهجتها, فنقول إنها تطوف مثلنا, حين تحلِّق حول ذات الوشاح الأسود, وتارة تستقر فوق ردائها,
الفراشات تلك كأنها رسل تفضي بما في جوفها, وتعاود الرحيل
نظنُّها حين تغيب في الفضاء باتجاه منارات المسجد الحرام تسكن هناك,
وأنّ المنارات بيتها الذي تدلف منه إلى هنا, وتعود تلج إليه!!...
ما الذي بقي من «الحج» الذي هنا, بعد أن صار هناك, وقد طالت أقدامنا,
تطوَّفت بالأرض الشاسعة, تباعدت فيها عنهن, وعنهم,
تغبَّرت بأتربتها, وطينها, وُخِزت بأشواكها, وحصاها,
تنعّمت بحشائشها, وخضرتها, ونداها,
وطئت منازلها, وحملت وعثاء الدروب وطالت, طالت
بل وَهَن العظم منها, وتداعى؟!..