د. عبدالحق عزوزي
سبق أن كتبنا في هاته الصحيفة الغراء أن الإرهاب المجالي هو بالضرورة نتيجة لإرهاب لا مادي أو لا مجالي مبني على الإقناع الأيديولوجي وعلى الشعارات السياسية الدينية الخاطئة وعلى الصيغ الهلامية التي لا تناقش بالعقل بل تتوالى وتنتشر بنهج الإعلان ولا تعترف بالحدود، وهو ما يفسر العمليات الإرهابية الفردية في الدول الغربية كما وقع في كيبيك وأوتاوا أو في سيدني أو كما وقع في باريس الفرنسية وبروكسيل البلجيكية، أو كما وقع منذ أيام في مدينة برشلونة الإسبانية؛ والجديد منذ سنتين فإن المطارات والشوارع أضحت صيدًا ثمينًا وهدفًا بالنسبة لها.. فلسنا في صدد جرس تنبيه يقوم به جنرالات الجيوش لتدريب العسكر وقوات التدخل السريع، أو في عمليات إرهابية افتراضية، وإنما هي حقيقة مرة وخاسفة بالاقتصاديات الوطنية، وبعجلة الحياة السياحية والاجتماعية ناهيك عن القتلى والجرحى والرعب الذي يسري في قلوب البشر والمسافرين الذين يمشون في الشوارع على الأقدام.
استهداف الشوارع أصبح اليوم هدفًا إستراتيجيًا بالنسبة للإرهابيين جماعات وأفرادًا، لأنها أكثر الأمكنة ازدحامًا بالناس من جنسيات عالمية، وتحدث زلازل في عمق المجتمع الوطني والدولي، ويمتد تأثيراتها إلى كل القطاعات، فخسائر البورصة مثلاً تكون فورية، وإلغاء الآلاف من تذاكر السفر تصبح مسألة طبيعية، وتعطيل وكالات الأسفار والقطاع السياحي بأكمله يكون مصيبة داهية على الآلاف، بل الملايين من الذين يشتغلون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في القطاع السياحي، .. فكما أن تكلفة الهجوم على مطار من المطارات مرتفعة جدًا لأنها هجوم على مكان من أكثر الأماكن المكلفة في البلد والعالم، ولأنها هجوم على مكان سيادي، يعبر عن هبة الدولة، وقوة اقتصادها ومؤسساتها، كما يعبر عن أمنها القومي، فكذلك اليوم أضحى الهجوم بطرق سهلة على المارة في الشوارع مكلفًا؛ وقد تغلق السلاح والعتاد على الإرهابيين سفاكي الدماء، ويأتونك بأبسط الوسائل للقضاء على النفس البشرية البريئة...
نعم أنه الإرهاب المتوحش... هذا التيار الظلامي العجيب الذي يغلق نفسه على نفسه، في عيش مستمر في الخيالات والأوهام، يمنع اتباعه من أي فهم صحيح أو صائب أو شرح سليم، ويقدم نفسه ضمن موجات غوغائية على أنه وحده هو الأمل والخلاص والنجاح فيبيح قطع الرؤوس وتقتيل الأنفس واستحياء الأطفال والنساء... والإرهابيون الداعشيون والقاعديون وأصحاب بوكو حرام وغيرهم يعتبرون المجتمع المعاصر كله مجتمعًا جاهليًا، ينبغي الانقضاض عليه لهدمه وتخريبه وعدم مهادنته أو العيش فيه أو حتى مسايرته ومتابعته، فلا يوجد حسب مقولاتهم ومفاهيمهم إلا «حزب الله» - وحاشا أن يكونوا حزب الله- وهو الحزب الذي يضم قادة ومريدي هذا التيار، وهناك حسب زعمهم «حزب الشيطان» وهو الحزب الذي يجمع بين دفتيه من عداهم في العالم أجمع...
الإرهاب العالمي في نمو مستمر، وأصبح اليوم من أكبر الفاعلين في النظام العالمي الجديد، لا عقل له ولا روح، يأتي كل شيء ولا يفرق بين صغير وكبير، يضع للظلم والانتهازية والتقتيل عناوين إيديولوجية، ويعطي للجشع كما يضفي على الانحراف هالة من الدين، ويجعل سفك الدماء ظلمًا وعدوانًا وقاعدة أساسية مبررة بالأيديولوجية والدين... الإرهابيون اليوم يستفيدون من العولمة التي تجعل الجميع يعيش في قرية واحدة وتحت سقف واحد، حيث إن منصات وسائل الإعلام الاجتماعية مثل «يوتوب» و»فيسبوك» و»تويتر» تقوم بالدعاية لإيديولوجيتهم، والتجنيد الرقمي والميداني للآلاف من الملوثة عقولهم في العالم بأسره بما فيهم صغار السن، والتشهير بجرائمهم الوحشية مثل قطع الرؤوس، والتفاخر بأسواق الرقيق من الفتيات والنساء للتأسيس حسب زعمهم لحياة دينية مثالية في ظل قانون لا يعلى عليه...
ما وقع في إسبانيا منذ أيام مخيف ومخيف جدًا... وكل زملائنا الذين كانوا يقضون عطلتهم هناك أو يعيشون بين ظهراني الإسبانيين يحكون لنا قمة الرعب والخوف الذي بدأ ينتاب الإسبان والمسلمين على السواء، والمستقبل سيكون صعبًا في وجه المسلمين وأبناء الجالية الثانية بل والثالثة الذين ينحدر منهم هؤلاء الشباب الإرهابيون.
إن العالم اليوم لا يحارب داعش وأخواتها وإنما يحارب فكرًا استئصاليًا ظلاميًا لا بيت له ولا جغرافيا، والمكان الوحيد الذي ينمو فيه ويتقوى هو العقل ثم ثانيًا: العقل ثم ثالثًا: العقل، والحل لا يكمن إلا في الأثير على هاته العقول لإزالة كل الجراثيم وإبقائها نقية طاهرة آمنة.