خالد محمد العديلي
عندما كنت أدرس في الولايات المتحدة الأمريكية كنت أسكن في بيت جميل وله فناء خلفي واسع... وكان جارنا الجديد الذي سكن في البيت الصغير المجاور للفناء يمتلك كلباً مرقطاً صغير الحجم ولكنه كان مزعجاً.. كثير النباح... كان الكلب ينبح بشراسة كلما رآني... كان لا يكف عن النباح صباحاً ويُعيد سيمفونية النباح كل مساء وبطريقة مزعجة للغاية... لدرجة أن النوم المريح أصبح حلماً بعيد المنال في الليالي الأولى لقدوم الجار وكلبه المزعج... وكنت أمني النفس بأنني مع مضي الوقت سأعتاد على نباح ذاك الكلب المزعج... وعندما صادفت «توم» لأول مرة بدا بغاية الأدب... لذا تجنبت الحديث عن كلبه المزعج من باب اللياقة والمجاملة. وبعد لقاءات عدة بيننا أشرت بطريقة ودية إلى نباح كلبه المزعج (بما أنني لم أستطع التأقلم مع ذلك...) عندها جاوب مبتسماً: أوه «جاز»... فعلاً أنه كلب صغير مزعج. وفي ذاك المساء كان نباح «جاز» جنونياً وكأنه قد غضب من الشكوى المؤدبة التي تقدمت بها. زرت «توم» بعدها بأيام واستقبلني أيما استقبال مما زاد من تحرجي من أن أطرح عليه موضوع الكلب «جاز» والذي كان صامتاً في ذلك الوقت ويهز ذيله بكل لطف... ولكن في النهاية تمالكت نفسي قبل أن أخرج من منزله وبعد أن شكرته بشكل واضح على حسن ضيافته أبلغته بشكل أكثر وضوحاً بأنني منزعج من نباح كلبه وأنني أصحو من نومي أحياناًً بسبب نباحه، وأن ضيوفي وأصدقائي وحتى جيراننا الآخرين منزعجون أيضاً. قدم لي «توم» الاعتذار بكل أدب وقال إن «جاز» كان كلب حراسة لوالده وهو الذي رباه ودرَّبه على النباح على الغرباء. واستدرك: الجيران ليسوا بغرباء... لا بد أن يعرف «جاز» ذلك. ووعدني أنه سيجد حلاً «مهنياً» لمشكلة «جاز» وسيطلب النصح من مختصين في تدريب الكلاب على «التصرف الجيد» مع الجيران. وأضاف: إن لهذا الكلب مكانة عاطفية في قلبي فقد اشتراه أبي عندما كنت صبياً وكبرنا معاً، ومع أنه شديد الشراسة مع الغرباء فإنه لطيف جداً وبشكل لا يصدق معنا، لذا فأنا لا أرغب في التخلص من «جاز» بسبب هذه المشكلة البسيطة التي بلا شك بالإمكان حلها بكل سهولة. واستطرد: إذا تمكن «جاز» من التعرف على الجيران والتعامل معهم كأصحاب المنزل فهو سيكون بغاية اللطف بكل تأكيد.
طبعاً استمر الكلب في النباح ذاك الأسبوع... لكن خاطبت نفسي معزياً: لِمَ العجلة؟ لقد صبرت طويلاً.... ولا بد أن أصبر لبعض الوقت إلى أن ينتهي من ترويض كلبه «الشرس اللطيف». الأسبوع أصبح شهراً والشهر شهرين ولم يتوقف الكلب عن النباح المزعج والمستمر ولم تظهر عليه أي علامات للتحسن عندها كتبت له رسالة: «عزيزي...توم» آسف على إزعاجكم وأشكر تجاوبكم معي وأود أن أبلغكم أنني ومعظم الجيران ما زلنا منزعجين من نباح الكلب... آمل إما أن تجد حلاً لذلك أو تتخلص من الكلب المزعج وإلا فإننا سنضطر وبكل أسف إلى اتخاذ الإجراءات القانونية خلال أسبوع من هذه الرسالة. قابلت «توم» جاري «المؤدب» في اليوم التالي... «توم» لم يكن مؤدباً هذه المرة، رمقني بنظرة وقال بنبرة حادة ومرتفعة... لا تختلف كثيراً عن نباح «جاز»: أين تظن نفسك وكيف تسمح لنفسك بالكلام بهذه الطريقة عن «جاز»، إنه بمنزلة فرد من العائلة وأنا لا أسمح لك بالتدخل بالشؤون العائلية ولا أقبل أن تتحدث بهذه الطريقة الوقحة عما يدور في بيتي... واهتم بشؤونك فقط! جاوبته وأنا أشيح وجهي عنه مبتعداً: إن ما يحدث في بيتك أصبح من شؤوني الآن. وافترقنا وقد تيقنت أن والد جاري «العزيز» لم يحسن تربية ابنه «توم» تماماً مثلما لم يحسن تربية كلبه «جاز». وفعلاً قدمت أنا وبعض الجيران الآخرين بلاغاً رسمياً للسلطات وبعدها بدأت الإجراءات وانتهت بطرد جارنا «العزيز» من الحي بعد أن رفض التخلص من الكلب فالقوانين الأمريكية التي تحترم الخصوصية لدرجة أنها تسمح لك بإطلاق النار على من يتعدى على حدود منزلك، لا تسمح أبداً بأن تحتمي بخصوصيتك لانتهاك خصوصية الآخرين، وأمريكا التي صنعت تمثالاً يحترم الحرية لا تقبل أبداً أن تتحول حريتك إلى «حربتك» التي تقتل بها الآخرين، وتستطيع وبمكالمة واحدة للشرطة أن تشتكي من صوت الموسيقى الصاخب لدى جارك وستجدهم خلال دقائق يطرقون أبواب الجار ويجبرونه على خفض صوت الموسيقى المزعج... وهم يقولون له: إنها فعلاً موسيقى جميلة ولك الحرية التامة أن تستمع إليها ولكن فضلاً اسمعها لوحدك ولا تزعج بها جيرانك الآخرين...
*** وختاماً: جارنا العزيز وشقيقنا الغالي... تميم نأسف للتدخل بشؤونكم العائلية... ونعتذر مقدماً على التعدي على حريتكم وسيادتكم... ولكن نود إبلاغكم أن نباح كلاب «الأمير الوالد» التي اشتراها من الخارج مزعجة للغاية... وإن كنتم تعتبرون صوتها «الذي لم يزعجكم قط» موسيقى جميلة فدعوها تنبح عليكم أنتم ولا تزعجوا بها جيرانكم الآخرين... فإن للصبر حدودًا.