د. خيرية السقاف
ولأنّ الحجَّ مكة
البيت العتيق, ومشاعرها ..
فإنّ بيتنا أيضاً الحج هي..
مذ يقترب طيف الحجِّ, نتحرى حركة دؤوبة فيها لإفراغ الحجرات, والصعود إلى السطوح, العالية قمّتها, التي تتحول لساحات لعبنا كلما اجتمعنا, جاءت ركائبنا من أقصى البحر جدة, أو أقصى الشرق الرياض, أو من الشمال المأنوس الطائف..
وحين يجيء طيف الحج, ويقترب, فإنّ النسوة في البيوت يصبحن كالشعل يتّقدن وهجاً, ونشاطاً, والرجال يقترحون, ويتفاوضون..
ونحن في المعيّة نشارك باللهو, والرَّكض, والفرح, والصخب..
كثيراً ما نتعثر بينهم, وكثيراً ما نتلقى اللوم حين تعبهم..
لكن الوجوه كلها ضاحكة مستبشرة..
فالحجيج سينزل هنا..
والبيوت مشرعة بفرح لهم.. بترحاب عفويٍّ نديٍّ مفعمٍ بعذب ذلك اليقين..
ويأتي الحجيج, أسراباً تشبه في بياضها سرب الحمام, والبجع, والبط البحري !
يتماوجون في كتلهم كموج هادئ يصخب تارة تهليلاً, ويسكت تارة خشوعاً, فهمهمةٌ شجيّة..
يستفزون فضولنا أن نفهم ما يقولون, ولا نفهم إلا بدلالة المكان, والتوقيت, وبعض جُمل نُسجت في بساط قلوبنا بمغزل ذلك اليقين: الله أكبر, لا إله إلاّ الله, ولله الحمد..
ونذهب بانتصار عارم لأمهاتنا, أن قد فهمنا لغتهم..
هذه اللغة المشتركة التي تعلقت بها أرواحنا وكأنها أعمدة رخامية من مرمر القلب, تشبه رخام المنارات, ومرمر سقوف رُواقات المسجد الحرام !..
الحج هنا أصابع تفكك تلك الأنسجة التي حِيكت بها مشاعرنا, ولُضمت بها عقود جمان حسِّنا المشترك..
الحجيج في بيوتنا صفحات في مدرسة الحج التي تفتَّحت عيوننا ونحن نتلقى حروفها, فتكوِّنت أبجدية النبض فينا..
كبرت مكة, واتسع المسجد, والمشاعر..
وصغرت كثيراً بيوتنا, وقد خلت من الحجيج..
صغرت بيوتنا وقد غادرتها أعمدتها التي اختفت في العمق..
لكن مكة احتشدت بالحج, وزادت..
ويجيء الحج مسفراً بالدلالة, موقِداً للكمون..
يلوح بالذي غدا أكثر, وأكثر, وأكثر..
والله أكبر, ولا إله إلاّ الله بكلِّ الألسنة, ومنتهى الرجاء
حجاً مبروراً, وسعياً مشكوراً..
والله خيرُ حافظٍ, وخيرُ معين.