د. حمزة السالم
العقل لا يُترك بغير عقال ولا خطام، قد سبق في الجزء الأول بيان موجز أهمية أن يُقيم المرء عقله خاصة إن كان ممن يتعرض للناس في تعليم أو مسؤولية أو قيادة. فالإنسان لا يأمن البلاء، ولا يأمن الفتنة من كبر وغرور. وكنت قد عرضت الجزء الأول من تقييم محب، شيخ فليسوف درس أصول كلا العلمين، الشريعة الاقتصاد. وقد كان الجزء الأول تقييماً للكتاب، وأما اليوم فهي قراءة من المُقيم للحال التي كنا وانتهينا أنا والفقهاء إليها، بشأن ما أطرح من دعوة للرجوع للكتاب والسنة حقيقة وترك التقليد. فمن التقليد شرك بالربوبية إذا حُرم الحلال وحلل الحرام. فإليكم بقية مقال الخميس، والذي وقفت فيه على جملة الخلاصة لتقييم الكتاب والتي قال فيها «إن ما يقدمه الكتاب لنا هو لكل ما يخص الدين والفقه كفرصة شاملة لإعادة إحياء أمة تعرف دينها لتنطلق بلا حد بعد ذلك» وانتقل المحب بعد ذلك لقراءة حالي مع الفقهاء فقال:
«ولقد اطلعت خلال السنوات التي مضت على كل الجدل القائم بين مؤلف الكتاب وفقهائنا الذين رفضوا أفكاره وما يقدمه، ووجدت أن السبب في رفضهم لما توصّل له الدكتور حمزة لا يكمن في صحة النتائج التي توصّل لها من عدمها، بل تكمن في سببين آخرين:
الأول يكمن في اختلاف الفهم لمعاني المفردات والمصطلحات في هذا النقاش بين الدكتور وبعض الفقهاء في الجهة الأخرى، والتي أشهد الله بأن الكتاب كان له أطول باع وأدق معنى في تحديدها وأشمل في توضيحها. وهو أمر يُقدّم للفقهاء أنفسهم. ففيه فرصه على طبق من ذهب لإعادة تنظيم فهمهم له من خلال معاني أكثر دقة وأشمل وضوحاً.
أما الأمر الثاني الذي سبب الجدل، فهو نتيجة عن اختلاف يخص التقنية العلمية للفقه منذ 1100 عام. والتي باتت مسلّمات لدى فقهائنا. هذه التقنيات التي لا أرى الكتاب وتقنيته البحثية قد نقضها أصلاً بقدر ما خلّصها من شوائبها وزادها عمقاً وقوّه وإحكاماً. وهذا أمر يُحسب للكتاب لا عليه. لكن عدم قدرة بعض الفقهاء على تجاوز رؤية ذلك إلا من خلال المسلمات القديمة نفسها جعلهم يطلقون الحكم مباشرة على عدم صحة النتائج، أو حتى محاولة تحليلها أو تمحيصها.
إن من رفضوا فكر صاحب الكتاب هذا لم يرفضوه لأنه توصل لنتائج خاطئة أو حتى صحيحة، بل رفضوه لأنه طرق على رأس مُسلماتهم بمطرقة واعية تعيد تصحيحها، وهو أمر سيجعلهم لو قبلوه، مضطرين لأن يُعيدوا نظرهم بكل نتائجهم الأخرى، ولو حاول الفقهاء الذين خالفوه الرأي في فهم المعاني التي يقصدها كما هي، لوجدوا رجلاً لا يقل حرصه على الدين من حرصهم، ولعرفوا فقيها يفتح أفقاً واسعاً من الفقه العظيم، ولسابقونا الاستزادة من فقهه العليم، ورؤيته الثاقبة، التي تسد كل هوّه، وترفع كل عثرة، وتُقيم كل إعوجاج تغلق به المنافذ للشر، وتفتح به كل أبواب الخير.
إنني أمام كتاب فيه من الفوائد المنهجية والدرر العلمية ونوافذ الفكر، ما يجعله فاتحة عشرات الكتب، يتسعها بأفكاره المختصرة، ما يجعله بنظري مغلاقاً للشر ومفتاحاً للخير.