رحلات الحج عبر مر التاريخ الإسلامي مليئة بالقصص المعطرة بعبق الذكريات المحزنة والمفرحة حيث كانت هذه الرحلات محفوفة بالمخاطر على الدوام حيث كان الحجاج يواجهون مخاطر الجوع والعطش ويتعرضون لبعض الكوارث من عواصف وبرد قارص وأمطار غزيرة وسيول جارفة وأمراض فتاكة، حيث كانت قوافل الحجيج تسير إلى المشاعر بحرًا أو برًا من كافة أصقاع الأرض يقودها أمير القافلة القائد العام كانت مهمته اختيار زمن التحرك وسلوك أوضح الطرق وترتيب الموكب في المسير والنزول والحراسة، ولنا أن نتأمل مع حلول موسم كل حج صور الماضي التي تروي عناء ووعثاء السفر ومشقته في عصور كانت تفتقر لمقومات الأمان والتنقل والراحة والإقامة في السفر ولا خدمات تقدم وتذكر بل الخوف كان يسيطر عليهم من الغدر والسطو والعدوان وربما المتاهة في الصحراء والموت عطشًا، كل هذه المعاناة للأجداد الذين واجهوا شظف العيش إلا أنه يحدوهم الإيمان وتأدية الفريضة، وقد أقيمت في السابق على طرق الحج منشآت بدائية بسيطة مثل المنازل الوقفية للاستراحة بها مما قد يعانوه من مشاق أو مرض أو غير ذلك.
وأقيمت على هذه الطرق الأعلام لإرشاد الحجاج إلى الطرق التي يجب سلوكها، حيث يذكر المؤرخون أن الخلفاء والأمراء كان لهم مبانٍ خاصة ينزلون بها عند زيارتهم الأماكن المقدسة ومن أبرز الخلفاء العباسيين أبو جعفر المنصور والمهدي وهارون الرشيد، وتلك هي المشاهد قبل قيام المملكة العربية السعودية على يد المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن طيب الله ثراه، كانت تحمل الكثير من المعاناة لقاصدي بيت الله الحرام. وكانت عملية نقل الحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، عرفات، مزدلفة، منى. تتم بواسطة الجمال وكان للجمّالة هيئة المخرجين تتولى مسؤولية تأمين الجمال والجمّالة وتتبعهم جماعة أخرى تعرف «بالمقومين» وهم من يتولون تقدير حمولة الجمل من عفش الحجاج وركوبهم وأجرة الجمل تقدر في كل عام في بداية موسم الحج فالجمل الذي يحمل الحاج له أجر والجمل الذي لا يحمل إلا عفش الحاج فقط له أجر وهذه هي الصورة الأولية لنقل الحجاج عبر الجمال والسير على الأقدام. في زمن غاب فيه الأمن والراحة، بل كان مليئًا بالعقبات والصعوبات إلى أن كتب الله قيام الدولة السعودية على يد المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن طيب الله ثراه التي كانت تحمل الكثير من المعاناة لضيوف الرحمن خاصة في رحلتهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة إذ كانت عمليات السطو والنهب وأخذ «الأتاوات» دون وجه حق هي السائدة في زمن لم يعرف الحاج فيه أي سلامة على نفسه وماله وعرضه، عندها انطلقت البداية الحقيقية لتنظيم خدمات الحجاج ففي عام 1343 هـ وتحديدًا يوم الخميس 7 جمادى الأولى بعد أن ضم الملك عبد العزيز رحمه الله الحجاز وإعلان مبايعته ملكًا عام 1344هـ «إذ أعلن طيب الله ثراه بحضور الأهالي ورؤساء القبائل والعشائر أن العمل في حرم الله سيكون بما في كتاب الله وسنة نبيه فلا يحل في هذه البلاد إلا ما حله الله ولا يحرم فيها إلا ما حرمه الله وأكد أنه سيضرب بيد من حديد وبلا رحمة على كل من تسول له نفسه العبث بالأمن ومحاولة تعكير طمأنينة وأمن الحجيج في جميع المشاعر والطرقات المؤدية إليها». وتذكر كتب التاريخ أنه عندما دخل الملك عبد العزيز طيب الله ثراه مكة أصدر بلاغًا في 12 جمادى الأولى سنة 1343هـ «أقر فيه العمل لرفع مستوى الخدمات المقدمة للحجاج من قبل المطوفين والإدلاء والوكلاء وكل من له علاقة من له بخدمة الحجاج وصدر نظامإدارة الحج في 20 ربيع الأول سنة 1345هـ الذي يعد أول تنظيم لخدمات الحجاج في عهد الدولة السعودية»، حيث كان يشكل ميناء جدة أعلى نسبة في استقبال الحجاج لأداء فريضتهم. وكان هناك عدد من وكلاء المطوفين وهم المسؤولون عن استقبال الحجاج في جدة. وكان المطوف هو الشخص المسؤول مسؤولية مباشرة عن الحجاج منذ وصولهم إلى مكة إلى أن ينتهي الحاج من أعمال نسكه، كان المطوف المسؤول الأول أيضًا عن حجاجه وسلامتهم الصحيّة كان ينقل المريض منهم إلى المستشفى باحثًا عن علاج له ومتابعًا لصحته، أما المتوفون منهم فكان المطوف مسؤول عن عملية دفنهم وحصر تركتهم وتسليمها لذويهم وكان المطوف هو المرجع الفقهي للكثير من الحجاج في المسائل التي يبحثون عن إجابة لها فيما يتعلق بالفريضة ولم يكن المطوف يومًا مجرد موظف يمارس عملاً، بل هو شيخ وسط حجاجه حتى إن كثيرًا من الحجاج صنفوا المطوفين بأسماء أصبحت ألقابًا مشهورة لهم، فالأتراك يقولون للمطوف الدليل، أما حجاج جنوب آسيا فيقولون له: المعلم وحجاج جنوب شرق آسيا يطلقون عليه الشيخ وهذا نتيجة طبيعية للمكانة التي يحظى بها المطوف لدى الحاج.
ومما كان يستمتع به الحجاج قديماً في رحلات حجهم هي زيارتهم للمواقع التاريخية لمكة المكرمة بدءًا من جبل النور وجبل ثور ففي هذين الموقعين كانت أدمع الحجاج تنهمر بكاء على ما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته وهجرته إلى المدينة المنورة حيث تتحول إلى مشاهدات توثق بالرحلة تنقل بعدها عبر الحاج عند عودته لأبناء قومه.
وكانت رحلة الحج قديماً تبدأ عندما ينوي المرء أن يحج ويعقد العزم على ذلك باستعداده قبل موسم الحج بعدة أشهر، حيث يعد له راحلة يطعمها ويهتم بها لتقوى على قطع مهالك الطريق وبعد ذلك يبدأ الحاج في جمع ما يحتاجه من نقود بسيطة لقلة ذات يد الكثيرين في ذلك الزمن فتراه يضاعف جهده من أجل شراء الراحلة وتأمين لقمة العيش التي ستسد رمقه أثناء الرحيل وحين العودة إضافة إلى قيمة الهدي للقادرين ولمن يختار نسك التمتع في الحج وبعد أن يجتمع حجاج كل بيت مع أقاربهم وأصدقائهم وبعد آهات الوداع الممزوجة بالدموع الحارقة يخرج حجاج كل بلد في طريق معروف ليلتقوا مع إخوانهم من حجاج المنطقة ويكونوا ركباً متعاوناً.
وكانت الراحلة التي تغذى جيداً قبل الرحيل بفترة لتقوى على قطع مهالك الطريق يوضع على ظهرها «الشدّاد» ويسميه البعض «المسامة» لركوب الرجل على ظهرها ويوضع للمرأة «هودج» أو «الكواجة» وهو بمنزلة خدر للمرأة تركبه ويسترها عن أعين الرجال ويصنع من الخشب ويستر بالقماش ويكون على هيئة صندوق مرتفع السقف يسمح للمرأة بالجلوس فيه براحة كما تزود الراحلة بالمزاود التي تعلق على جانبي الراحلة وهي عبارة عن أكياس مصنوعة من الصوف لحفظ المتاع البسيط ويكون المشي خلال رحلة القافلة أثناء برودة الجو وعندما تشتد حرارة الشمس في الظهيرة يتوقف الركب للراحة تحت ظل الأشجار..
ويعمد المسافرون أثناء الرحلة إلى أكل بعض الطعام كل على حدة مع أهل بيته بعد أن يترك المطية ترعى حولهم وقد يكون هذا الطعام بضع تمرات مع مذقة ماء باردة من القرب المملوءة وقد يعجن البعض من الموسرين الطحين «دقيق القمح» ويتبعه بشرب الماء ومن ثم تواصل القافلة المسير إلى وقت الليل فيتوقف الركب ويعقل كل راحلته حتى لا تسري أثناء الليل وتتركه بلا راحلة، بل إنّ البعض منهم يعقلها ويتوسد يدها لينام الليل وخصوصاً وقت شدة البرد حيث تجلب له الدفء.
وبعد الوصول إلى مكة يؤدي الحجيج حجهم في الاستقرار بمنى ومن ثم الذهاب إلى عرفة حيث يجلسون في العراء فلا خيام ولا منازل تؤويهم فالأرض فراشهم والسماء لحافهم بعد ذلك يبيتون في مزدلفة وإذا أصبحوا ذهبوا إلى منى لرمي جمرة العقبة ونحر الهدي لمن كان متمتعاً أو قارناً وكانت قيمة الهدي آنذاك لا تتعدى الثلاثة ريالات فيأكل الحجيج من هديهم ويستطعمون اللحم الذي لم يتذوقوه منذ أشهر وبعد إتمام الحج يعمد الحجاج إلى تجفيف اللحوم المتبقية من لحوم الهدي وذلك بتشريح اللحوم وإضافة الملح إليها ليبعد الماء ويسرع في تجفيفه ويسمى اللحم المجفف «القفر» فيأكلونه في طريق العودة وقد يتبقى قليل منه ليأكله العائدون إلى ديارهم مع أهاليهم ويكون له طعم ومذاق خاص لا ينسى.
ولا ينسى الحجاج بعد إتمام مناسك الحج الهدايا لمحبيهم من الأهل والأصدقاء وللصغار نصيب منها وكانت الهدايا المعروضة للشراء في ذلك الزمن محدودة فلا مجال للاختيار وتنحصر تلك الهدايا في «القريض» وهو حب الحمص الصغير المجفف وحلاوة مكة وهي قطع حمراء بطعم السكر تصنع في قالب كبير ثم تكسر إلى قطع على قدر كف اليد أو أصغر وكان لها مذاق خاص وطعم حلو رائع وارتبطت هذه الحلوى بمكة فعند النظر إليها تعرف أنّها جلبت مع الحجيج أو المعتمرين كما أنّ من الهدايا «الزمارة» وهي آلة صغيرة عند النفخ فيها بالفم تصدر صوتاً جميلاً يفرح بها الصغار ويلهون بها وقد ضرب بها المثل حيث يقال «زمّر ولدك» لمن وصى صاحبه بشيء ودفع له القيمة مقدماً ليحضرها لأطفاله..
ويعود الحجيج والفرحة لا تسعهم بعد أن منّ الله عليهم بأداء مناسك الحج، ويرددون أبياتاً يتغنون بها ومنها: «الهجن عدت بنا الأميال.. والحج عنا قضاه الله»، وقد يموت أحد الحجاج في طريق العودة فيضطر رفاقه إلى دفنه في الطريق نظراً لبعد الديار، فلا يستطيعون حمله فإن كانوا قريبين من مورد غسلوه وكفنوه وصلوا عليه ومن ثم حفروا له قبراً ودفنوه أمّا إذا كانوا بعيدين عن الموارد وكانت الأرض صلبة غسلوه وكفنوه ومن ثم وضعوه في أحد الجبال وسدوا عليه قبره بالحجارة حتى يواروه عن السباع ومن ثم يواصلون المسير إلى الديار لينقلوا خبر وفاته إلى أهله الذين يعيشون الحزن والفرح معاً حزناً على فراقه وفرحاً بحسن الخاتمة حيث إنّ الحاج يعود من ذنوبه مثل يوم ولدته أمه..
وبعد أن تحسنت الأحوال المعيشية بعد توحيد المملكة وظهور السيارات في نهاية الخمسينيات الهجرية صار الذهاب إلى مكة لأداء منسك الحج ميسرًا بعد السفر سيرًا على الأقدام أو بواسطة الجمال فأصبح السفر إلى مكة عن طريق السيارات التي قلصت الوقت من خمس وعشرين يوماً إلى خمسة أيام أو أقل نظراً لوعورة الطريق قبل مد خط «الإسفلت» بعد أن كانت الجمال تشكل أفضل وسيلة نقل في زمن لم يعرف وسائل النقل الحديثة.. حيث كانت قوافل الحجاج تصل للأراضي المقدسة وتحمل كل منها قصة تروي مشقة وعناء السفر وكان الكل يأتي للحج غير مكترث بالمخاطر التي ستواجهه..
كما ذكرنا كانت عملية نقل الحجاج تتم بواسطة الجمال إلا أنه في عام 1345هـ أسست شركة السيارات تلاه في عام 1346هـ صدور الأمر السامي بالمصادقة على تسيير السيارات وبتشجيع من الملك عبد العزيز طيب الله ثراه تأسست الشركة السعودية الوطنية لسير السيارات بالحجاز وتلك هي الصورة الأولى لنقل الحجاج عبر الجمال والسيارات في زمن غاب وآخر حضر فيه الأمن على الطرق بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
دعوة الحجيج لهذا النسك الركن الخامس في الإسلام، كما ذكر سابقًا متمثلاً في الدعوة الربانية في صريح الآية الكريمة «وَلِلَّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً «. ودعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
ولتقلب الأزمنة والدهور وتغير أحوالها عبر مر العصور من سيئ وأسوأ على الطرقات ومسالكها دعت الحاجة إلى جعل تنظيم لاستقبال ضيوف بيت الله الحرام وتهيئة أداء مناسكهم في راحة بالرغم ما عانوه من مصاعب ومشاق أثناء سيرهم في طريق رحلتهم، أدت الحاجة إلى ظهور مهنة الطوافة لجهل الحجاج عن كيفية أداء نسكهم، كما ذكر سابقًا.
نتناول بالتفصيل عما يلي:
المطوفون
كانت هذه المهنة وسام شرف تمنح للعلماء والفقهاء من سكان الحرمين الشريفين الذين كانوا يستقبلون وفود الحجيج من مختلف الدول بلغاتهم التي عرفها هؤلاء أصحاب المهنة، حيث كان لهم الشرف باستقبالهم في منازلهم وكانت بيوتهم عبارة عن دار مفتوحة لتلقي العلم للبعض من القادمين للحج بترك أبنائهم لتلقي العلوم الدينية والشرعية ومن ثم يعودون إلى بلادهم لنشر ما تعلموا ودرسوا.
ويرجع تاريخ الطوافة إلى عام 884هـ لعهد المماليك الأتراك والشراكسة وبحكم جهلهم باللغة العربية وحبهم للأبهة كانوا يعتمدوا على من يخدمهم ويدلهم على مشاعر الحج، وفد ذكرت بعض كتب التاريخ أن السلطان قايتباي حج عام 884 هـ وأن القاضي المطوف إبراهيم بن ظهيرة هو من تقدم لتطويفه وتلقينه الأدعية. ثم قليلاً قليلاً تم خروج مهنة الطوافة من العلماء والفقهاء إلى بعض الأعيان من أهالي مكة المكرمة الذين زاد عددهم إثر قدوم الحجيج عن طرق البحر ومساهمتها في نقل الحجيج عام 1291هـ واتساع نطاق الطوافة.
وتقول كتب التاريخ: إن أقدم تقرير في الطوافة جرى الاطلاع عليه هو تقرير آل جاد الله بتوقيع الشريف غالب عام 1205هـ ولعل بعض الأسر من المطوفين لديهم تقرير أقدم من هذا التقرير, وتوسع الشريف عون الرفيق في توزيع البلاد الإسلامية إلى أقسام وحدد وعين لها مطوفون.
كان الشرف الأكبر الذي توج رأس المطوفين ورفع من شأنهم عناية المغفور له الملك عبد العزيز، وقد سار بعده أولاده على منواله وكان أول مرسوم أصدره الملك عبد العزيز بعد دخول مكة المكرمة عام 1343هـ منشورًا لمن في مكة وضواحيها من سكان الحجاز الحاضرة منهم والبادي وقد نصت المادة الرابعة منه على ما يلي:
«كل من كان من العلماء في هذه الديار أو موظفي الحرم الشريف أو المطوفين ذا راتب معين فهو له على ما كان عليه من قبل إن لم نزده فلا ننقصه شيئاً إلا رجلاً أقام الناس عليه الحجة أنه لا يصلح لما هو قائم عليه فلذلك ممنوع مما كان له من قبل، وكل من كان له حق ثابت في بيت مال المسلمين أعطيناه حقه ولم ننقصه شيئاً».
كانت هنالك رحلات خارجية للمطوف فكان يجهز نفسه للسفر والمكوث لعدة أشهر في البلاد التي يقدم منها حجاجه فكان يجهز نفسه بالهدايا وجميع ما يلزم لتوزيعه على الحجاج كماء زمزم والمسابح والسجاجيد وصور عن المسجد الحرام والمسجد النبوي وبعض من أنواع الحلوى وكان يقيم ويتنقل بين قرى ومدن البلد التي سافر لها ويقيم مراسيم استقبال للحجاج والشرح لهم عن هذه الفريضة والنسك وكيفية أدائها وما يترتب على كل ذلك من الأعمال الخاصة بالحاج من وصوله إلى سفره مرة أخرى لبلاده ويبين دور الشخصية المكية بعاداتها وتقاليدها وبالميزة التي شرفها رب العزة والجلال بخدمة هذه الوفود القادمة لأداء الحج، كان المطوف يعمل لعائلته ولاسمه نوع من الدعاية التي يتمثل جلها في خدمة حجاج بيت الله لا طمعًا في مال ولا دخل يفكر به إنما همه نيل الأجر والثواب لكل هذه الأعمال من الله تعالى وخدمة لضيوف بيت الله الحرام.
كان لكل مطوف مقر خاص يستقبل فيه الحجاج يسمى «البرزة» والتي كانت تشكل تنافسًا قويًا بين المطوفين فكل منهم يعتمد على إظهار برزته بشكل أفضل رغبة منه في الدعاية للعام الذي يليه لقدوم حجاج أكثر، وداخل البرزة كان يجلس المطوف وعن يمينه وشماله أعونه من الذين يقدمون خدماتهم كتطويف الحجيج وتلقينهم الأدعية المختارة، وأيضًا كان يجلس معهم من بعض أئمة المساجد المجاورة وبعض من الحجاج القادمين له لسماع أي درس أو الاستفسار عن أي سؤال، ويقف أبناء المطوف وعماله في استقبال الحجاج وإدخالهم وتقديم واجب الضيافة حال قدوم ووصول الحجاج لهم من جدة بعد مرورهم بمركز البيبان ويستقبلونهم هنالك ما يسمى بالمرشدين الذين بدورهم ينقلون الحجاج إلى مطوفيهم مباشرة لدخولهم مكة المكرمة ومن ثم يبدؤوا في تسكين الحجاج في المنازل المعدة التي استؤجرت لإقامتهم وهذه البيوت هي بيوت أهل مكة حيث كان معظم الأهالي يقومون بتأجير منازلهم للمطوفين لإسكان الحجاج بها، وأهل المنزل يقوموا بالصعود للمبيتات والأسطح والإقامة بها لحين انتهاء موسم الحج، أو الذهاب إلى ضواحي مكة وخارجها للتوسيع على الحجاج لأن المنازل كانت جدًا صغيرة. بعدها يتوجهون إلى بيت لله الحرام لطواف القدوم، كان قديمًا المطوفون يأخذون حجاجهم بأنفسهم إلا أنه بعد ذلك استعانوا بمطوفين يقومون عنهم بذلك وكانوا يبحثون عنهم ليقوموا بتلقين الأدعية الروحانية والذكر ويعملون معهم سنويًا لهذه المهمة فهو يعتبرونه كوكيل للمطوف للشؤون الدينية، يمكث الحجاج في مكة المكرمة كلاً حسب المدة التي حددها لإقامته بالصلاة في المسجد الحرام وبالتنقل لزيارة المعالم الموجودة والمشاعر أو أخذ عمرة له أو عن أحد أقارب الحاج كالوالدين وغيرهم، إلى أن ينتهي الحاج من مقصده الذي قدم لأجله وتبدأ رحلة العودة لبلاده أو لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمطوفون كانوا يعتمدون اعتمادًا كاملاً في رزقهم على ما تأتي به طوافتهم للحجاج، ذلك أن الحجاج كانوا يأتون للحج لمدة طويلة, فالباخرة الهندية كانت تأتي بحجاجها في شهر رجب, وتعود لأخذهم بعد ثلاثة أشهر من انتهاء موسم الحج, وفي نصف السنة الآخر كانت هذه الفترة تسمى بفترة «البصارة» حيث كان المطوفون يشتغلون بإصلاح البيوت التي تستقبل الحجاج وغيرها من الأمور كدهن الجدران بمادة الرخام استعدادًا للحج القادم، كانت عادة المطوفين منذ أن بدأت مهنة الطوافة الالتزام بإكرام الحاج وتولي تيسير إقامته وتنقلاته من دون أي تحديد لرسم معين يدفعه، بل كان الحجاج في نهاية زيارتهم يجتمعون ليفرش أحدهم وعادةً ما يكون حاجًا سبق له الحج ويسمون بالمعاودين قطعة قماش بيضاء ويدعو زملاءه لإكرامية المطوف كلُ بما تجود به نفسه وبعض الحجاج لم يكن يستطيع دفع شيء واستمرت هذه العادة تقليدًا متبعًا حتى صدر قانون في عام 1326هـ وجاء فيه أن الحاج الجاوي يدفع جنيهًا عثمانيًا أجرة مسكن بمكة, وعشرة جنيهات هندية يدفعها حاج الهند، وخمسة ريالات مجيدية لأهل الصعيد وغزة والعراق وما إلى ذلك.
أما أسر المطوفين كانوا يستضيفون الحجاج في منازلهم ويسهرون على خدمتهم وراحتهم بسعادة بالغة ولتبيان روح النفس المكاوية وما تحمله من حب فيا لها من نفس راضية مرضية وليغرسوا في البنات روح الطوافة, لأن المهنة لا تقتصر فقط على الرجال، بل كانت للمطوفات مشاركات فعالة في أعمال الحج، وكن هنالك رائدات في هذه المهنة الشريفة حملن على أعتاقهن هذه المسؤولية وهذا الشرف العظيم.
وكلاء المطوفون:
هم الذين يستقبلون الحجاج من جدة البوابة الرئيسة لقدوم الحجاج، هؤلاء الوكلاء خدماتهم تشمل الاستقبال وتحصيل أجور نقلهم إلى مكة والمدينة.
الزمازمة
هم المكلفون بسقيا الحجاج من ماء زمزم وتأمينه فترة بقائهم وأداء نسكهم في مواقع سكناهم وبيت الله المعظم.
الأدلاء
هم الذين يقومون بخدمة الحجيج في المدينة المنورة من إسكان وإعاشة وتنقلات ومتابعتهم إلى عودتهم لبلادهم وغير ذلك من الخدمات التي تعد مساندة لأهل الخدمة الطوافية.
هيئة السؤال:
هي الجهة المعنية لسؤال الحاج عن المطوف الذي يرغب في تأدية وإتمام أداء نسك الحج لديه.
عادات أهل مكة في الحج
كان معظم رجال مكة المكرمة يقومون بخدمة حجاج بيت الله الحرام كلاً حسب عمله ابتغاء الأجر والمثوبة من الله عز وجل وراحة لحجاجه، كان نساء مكة يحرسن البيوت أثناء ذهاب رجالهن إلى الحج، وكانت ليلة عرفات تسمى بالليلة اليتيمة، وكان هؤلاء النسوة لا يرحمن أي رجل يقع في قبضتهن فعقابه الفضيحة إن مكث في مكة ولم يذهب مع الرجال في خدمة الحجيج, كن يقبضن عليه ويلفون به الحوائر وهن ينشدن: «يا قيس يا قيس الناس حاجة وأنتَ هنا ليش، يا قيس يا قيس قوم اذبح التيس، كل الناس حجوا وأنتَ ما حجيت «. كانت هنالك عادة أيضًا لنساء مكة أن يجتمعن ويذهبن وهن صائمات مع أبنائهن للإفطار في يوم عرفة بالحرم المكي، ولاستقبال يوم العيد بتوزيع الحلوى والنّقل على الأطفال، وعمل المعمول، وإنشاد الأهازيج الخاصة بأيام العيد ومنها «المعمول سويناه وفي الفرن خبزناه والخروف اشتريناه وفي الحوش ربطناه وللجزار ارسلناه والمقلقل أخرناه ليوم العيد خليناه ويا قيسنا يا قيسنا تعالوا اذبحوا تيسنا واشربوا من شربيتنا يامرحبًا بكم في بيتنا». أيضًا كان معظم أهل مكة لا يأكلون اللحوم في فترة الحج إلا الضعفاء منهم لأنهم يعتبرون اللحوم فدو وهدي صدقة لفقراء مكة فكانت بعض الأسر تحضر اللحم فقط في يوم عرفة ولا يشترون اللحم إلا من الجزارين المعروفين في حالة رغبتهم في اللحم.
كل هذه المنظومة عن الحاج ورحلته من مشاق وما ترتب عليها بين مختلف وشتى الدهور دعت الحاجة للتطوير كلاً حسب مقدرته وبما أوتي من قوة وجهد، إلى أن قيض الله سبحانه وتعالى لهذه البلاد بلاد الحرمين بالعهد السعودي المبارك وما ننعم عليه من خير واضح للأعيان بأن دولتنا دولة حب وتآخٍ لجميع ديار المسلمين وتسعى لإعلاء كلمة التوحيد ولخدمتهم بكل ما أوتيت من جهد ومال وتضحية فيكفي حكامها من أحبوا أن يطلق عليهم بخدام الحرمين الشريفين.
اللهم أنت السلام، ومنك السلام فاحينا ربنا بالسلام.
** **
- د. عصام حمزة محمود بخش
drebakhsh@hotmail.com