د.عبد الرحمن الحبيب
ليست خطورة «المتطرف» في تعصبه الفكري فهو حرٌّ بأفكاره، بل في علاقته مع الآخرين لأنه يصادر حقهم بالاختلاف.. فلا يكتفي بطرح رأيه للآخرين بل يطالبهم بتبنيه أو يعلن الحرب عليهم.. المتطرف في حالة قِتال مع الآخرين.. تلك مشكلة أساسها سلوكي وليس فكرياً..
مشكلتك مع المتطرف ليست في أنه ينسف أفكارك، بل في أنه ينسفك أنت.. «ما هو مرفوض، ما هو خطير من الجماعات المتطرفة ليس أنهم متطرفون ولكنهم غير متسامحين. الشر ليس ما يقولونه عن قضيتهم، ولكن ما يقولونه عن خصومهم».. هذا ما قاله السيناتور الأمريكي المدافع عن الأقليات العرقية والاقتصادية روبرت كينيدي، الذي اغتيل عام 1968 عقب إعلانه لترشحه للانتخابات الرئاسية، بعد خمس سنوات من اغتيال شقيقه الرئيس الأمريكي الأسبق..
إذا لم يكن الفكر هو أساس التطرف، فكيف نُعرِّف التطرف وكيف نشخصه؟ لا توجد جماعة أو فرد يطلق على نفسه متطرفاً. «التطرف» مصطلح خارجي يطلقه الآخرون من خارج الفئة الموصومة بالتطرف لأنه ذو معنى تنفيري وازدرائي. أما من يصمه الآخرون بالمتطرف فهو نفسه يعد الآخرين متطرفين ضد ما يؤمن به باعتباره حقاً مطلقاً!
التحليل المتجرد من التحيز يحاول استخدام كلمات أخرى محايدة حسب التعريف الحَرفي القاموسي للتطرف، وهو «حالة الحد الأقصى»؛ والمذاهب المتطرفة هي التي «تدعو إلى أفكار وحركات قصوى» وبناءً عليه، تبدو أكثر كلمة حيادية بديلة عن التطرف هي: «أقصى».. أقصى اليمين، أقصى اليسار، أقصى المذهب الفلاني..الخ. هذا المصطلح الوصفي الظاهري يلقى قبولاً لدى الجميع، متطرفاً كان أو معتدلاً. كذلك يستخدم مصطلح مرادف للتطرف وهو «الرادكالية» (الجذرية)، فليس له نفس البعد التنفيري - باستثناء أمريكا - فهو يعني التغيير الجذري، وهذا مطلب كل «متطرف» ومفخرته.
لكن، ما هو تعريف التطرف من ناحية اصطلاحية وليس لغوية؟ إذا كانت الأشياء تعرَّف بأضدادها، فالتطرف نقيض الاعتدال أو الوسطية؛ ويُعرَّف التطرف بأنه أية إيديولوجية أو حركة سياسية بعيدة جداً عن السياق السياسي والفكري العام في المجتمع؛ وهو بذلك يشكل تهديداً للاستقرار الاجتماعي أو تهديداً للأفراد والجماعات والدول.
التطرف يوجد في كل الإيديولوجيات السياسية كاليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، وفي كل الأديان والمذاهب، بل هناك تطرف المحافظ الوسطي الذي لا يرى أية حقوق حرية لمن هم خارج التيار الوسطي العام للمجتمع، ويعدّها بعض الباحثين فاشية جديدة حسب الباحث ليبست من جامعة ستانفورد.. وهناك التطرف الليبرالي الذي يرى أن لا حرية لأعداء الحرية حسب تصنيفه لهم.. بل ثمة تطرف حتى بين ناشطي حماة البيئة والرفق بالحيوان، فهناك من يحرض على تفجير معامل طبية تقوم بالتجريب على الحيوانات أو إنتاج مواد كيماوية.. فالتطرف ليس فكرة إنما سلوك..
من كل ذلك نجد أن التطرف مصطلح يصعب تحديده فهو متغير بتغير الزمان والمكان؛ وهو متأثر كثيراً بالموقف السياسي الفكري لمن يستخدمه. فالفكرة التي كانت متطرفة في الماضي قد تصبح مقبولة في الحاضر، وما يشكل تطرفاً فكرياً في مجتمع قد يبدو اعتدالاً في مجتمع آخر، مثل درجات الحرية والمحافظة والتدين. بل حتى التطرف المرتبط بالعمل المسلح ضد دولة قد يبدو مبرراً أخلاقياً وبطولة مثل مقاومة الاحتلال كمواجهة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقاً. يقول الجمهوري الأمريكي باري جولدوتر: «التطرّف في الدفاع عن الحريّة ليس بالرذيلة، والاعتدال في مسعى العدالة ليس بالفضيلة».
ومن هنا، يعد «التطرف» مصطلحاً سياسياً مشوشاً وفكرة ذاتية أكثر من كونها موضوعية، لأنك لا تستطيع أن تأطره منهجياً بوضوح. لذا، ففي الفلسفة لا تستخدم كلمة «تطرف» كمصطلح، لأنها بلا معنى. كما أنه من الناحية السياسية الأكاديمية لا يمكن تحديد متى يبدأ التطرف.. فهو يمتد من مجرد هواجس نسبية التطرف وأفكار متعصبة لمذهب معين إلى أفكار متشددة جداً تدعم ممارسة العنف لتحقيق الفكرة..
لكن إذا كان مصطلح التطرف عصياً على التعريف، فإنه يمكن توصيفه (المنهج الوصفي)، فرغم اختلاف أنواع التطرف واختلاف درجاته، فإن السمة الأساسية للتطرف، والمشتركة بين من يطلق عليهم «متطرفين» هي الموقف العدائي تجاه المخالفين في الرأي والسلوك. يحدد ليرد ويلكوكس (الباحث بجامعة كانساس) إحدى وعشرين سمة لـ «المتطرف السياسي» تراوح من وضع صفات شريرة للمخالفين إلى ميل سلوكي لتدمير الشخصية المخالفة، ودعوات الكراهية ووضع تصنيفات تحريضية، أو الميل للترهيب بدلاً من الحجة والفكر. وفي دراسته جمع الباحث رونالد ونتروب صفات مشتركة للجماعة المتطرفة، كالتالي: ضد أي حل وسط، متأكدة تماماً من موقفها، شيطنة الآخر، غير متسامحة مع الاختلاف داخل المجموعة، تدافع عن العنف وتستخدمه أحياناً لتحقيق أهدافها..
قد لا يستخدم المتطرفون العنف، لكن أفكارهم تبرر أو تشجع الاعتداء على الأفراد والمؤسسات، أو التحريض العام ضد الدولة والمجتمع، مثل مطالبات تيار أقصى اليمين في أوروبا ضد المهاجرين، ومثلما يطالب بعض المتشددين لدينا بحجب حق التعبير للمخالفين لأفكارهم أو محاكمتهم بسبب أفكارهم المشروعة نظاماً أو التدخل الجسدي لتغيير سلوكيات معينة.