عبدالعزيز السماري
شغلت حركة الإخوان المسلمين الواقع العربي السياسي والثقافي منذ اندلاع ما يطلق عليه بالربيع العربي، وأصبحت المتهم الأول في اندلاع الفوضى الشعبية والخروج على النظام في بعض الدول العربية..
لكن الأحداث المتوالية أثبتت أن فشل بعض ثورات الربيع العربي كان بسبب ركوب جماعة الإخوان قوافل التغيير، ثم محاولة اختطاف الحراك الشعبي؛ وذلك لأسباب لها علاقة بالتراث، فالفكر الديني المسيس يؤمن بحق امتلاك الوصاية الإلهية على الدهماء..
حراك جماعة الإخوان لم يكن شعبيًّا صرفًا، ولن يكون كذلك، فالحراك الإخواني نخبوي بامتياز، ويسيطر عليه المؤدلجون بالحل الإسلامي السياسي وبعض المتحولين من المذهب السلفي واليساري، لكنه يظل تنظيمًا سريًّا بالنسبة للعوام، ويفتقر للحلول، ويستخدم الأنفاق السرية وفن الاختفاء تحت وجوه مختلفة مثل معالي وزير أو مدير جامعة أو رجل أعمال.
كتبت في السابق أن جماعة الإخوان محاولة دينية واعية من أجل الخروج السياسي من ثوب التقليد الإسلامي، لكنها تلوثت بالمصالح الشخصية، وقد تشبه بدايات الحركة اللوثرية في أوروبا، التي تحولت لاحقًا مرغمة إلى فكرة ليبرالية صرفة، لكنها لم تتخل عن مبادئها العليا، لكنها احترمت ثوابت الحرية الاجتماعية والاقتصادية في تلك الأوطان.
يعمل التنظيم في حراكه المعاصر على تقديم وجوه ثقافية تروج لمفاهيم لا يؤمنون بها بإطلاق مثل الاستقلال والحرية والديمقراطية، بالرغم من أنها تخالف جملة وتفصيلاً روح التكفير التي تسكن داخل التنظيم الهرمي السري للجماعة، ولا تتفق مع أسلوب المرشد الذي يحكم مركزيًّا، ويعود له الأمر في مختلف الأحوال.
قضيتهم مع النظام العربي المعاصر متناقضة، وقد تكون أشبه بعلاقات الحب والكراهية، وقد شهدنا خلال تجاربنا العملية والثقافية كثيرًا من فصول هذه العلاقة المريبة، فبالرغم من أنهم في العلن العدو الأول للنظام السياسي العربي المعاصر إلا أنهم دومًا المرشحون الأبرز في المناصب القيادية.
الصورة أعلاه في منتهى الوضوح، فالإداري الإخواني لا يسقط، وإن أفسد في مكان ينقل إلى آخر، وقد يظهر كرجل أعمال بارز بعد خروجه من المنصب، ولذلك تفسيران لا ثالث لهما، وهو احتمال وجود دولة عميقة داخل بعض الأنظمة العربية، وثانيهما أنها محاولة استلطاف وتملق النظام لهم من أجل كسب ولائهم السياسي.
أو أنها ربما أقرب لقضية تبييض الأموال عند بعض رجال الأعمال، الذين يخرجون على الملأ في صحبة داعية إخواني شهير، ثم يعلن تقديم تبرعات مالية طائلة للداعية من أجل نشر الدين الصحيح، وهي إحدى أبرز صور النفاق في المجتمع، لكنها تكشف بعض تلك العلاقة النفسية الغريبة.
تُعتبر جماعة الإخوان من أكثر الجماعات السياسية الدينية ثروة مالية، ولم تأتِ من فراغ أو من جميع تبرعات المساجد أو من الشعوب، ولكن عبر علاقة محترفة للتنظيم مع الحكومات الإسلامية و العربية، التي كانت تحول إلى حساباتهم مئات الملايين على هيئة تبرعات.
قد تتضح الصورة للقارئ أكثر عند الاطلاع على كتاب «من داخل الإخوان المسلمين» ليوسف ندا ودوجلاس تومسون. ويوسف ندا ليس مجرد رجل أعمال مشهور أو رئيس لبنك التقوى، ولكنه لعب طوال الـ25 سنة الماضية دورًا مهمًّا في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، وكان المسؤول عن تنظيم العلاقات بين الإخوان والحكومات الإسلامية والعربية وجمع المال السياسي لدعم العمل الحركي للجماعة..
خلاصة الأمر أن ثورة يناير المصرية كانت دليلاً على الفراغ السياسي التنظيمي في عقول الثوار في الميادين، فالساحة السياسية كان يوجد فيها تنظيمان فقط، أحدهما النظام السابق والآخر التنظيم الإخواني، وأثبتت الأحداث أن الأصوات الوطنية أو الليبرالية مجرد فقاعات إعلامية، وليس لهما أثر في الشارع.
كذلك هو الحال في بقية الدول العربية، فالتنظيم السياسي محتكر بين نظامين، أحدهما ظاهر والآخر خفي، وكلاهما يغذي الآخر، وإن ظهرت أصوات عالية ضد التنظيم الإخواني، وتعلن الحرب ضدها، فالواقع يقول غير ذلك، والإخواني لا يسقط، ولكن ينتقل من مكان إلى آخر.
لهذه الأسباب أشفق لحال ما يطلق عليه بالليبراليين أو الوطنيين، سمهما ما شئت، فهما أشبه بالمحرمات التي لا تحل إلا عند الضرورة..