د. عبدالله بن ثاني
إكمالاً للقراءة في الفكر الإستراتيجي للأمير محمد بن سلمان في الحلقة الأولى التي كانت عن جهوده -حفظه الله- في تفكيك التوحش ونظريات الفناء الحضاري التي طرحها تنظيم القاعدة وما أفرزه من حركات متوحشة كداعش والنصرة وتجفيف منابعها في الأحزاب السياسية التي تمدها بالأدلجة الضارة كالأخوان المسلمين والحوثيين والأحزاب الشيطانية الطائفية ومن هم على شاكلتهم فإنني أتناول الجهة الأخرى للعملة الواحدة وهي الفوضى الخلاقة التي كانت بكل أسف برعاية رسمية من بعض الدول وكان قدر العالم العربي أن يقع بين مطرقة توحش الإرهابيين من جهة وسندان الفوضى الخلاقة، كل ذلك أستحضرته أثناء قراءتي لكتاب صدر قبل بضعة أشهر «استجواب الرئيس: التحقيق مع صدام حسين» والذي كتبه محلل السي آي إيه جون نيكسون، وهو من أهم الكتب التي توثق إرهاصات هذه المرحلة التي يعيش العالم العربي نتائجها الكارثية بعد غزو الكويت وتبعات ذلك الغزو على نظرية الأخلاق وتطبيقاتها السلوكية في العقل العربي وتحفز الذهنية العالمية لضرورة العقاب عن طريق ردة الفعل غير المنضبطة تحت مسمى «الشرق الأوسط الجديد» بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاه من سني ما يسمى بالربيع العربي العجاف...
لقد عرفت أن أكبر التحديات التي أصابت مفهوم الدولة الوطنية في الصميم هي نظرية الفوضى الخلاقة أو الولادة من رحم الألم، وأن الكارثية لا تكمن فقط في فعل مجنون وحماقة غير مسؤولة سواء في اجتياح الكويت آنذاك أو خيانة عدد من المغامرين (19 إرهابيا) يوم الثلاثاء 11 سبتمبر 2001 م لعقود الأمان التي دخلوا بها الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما تكمن الكارثية في ردة الفعل المرعبة على الشرق والمستوحاة من ذهنية رجال المخابرات كجون نكسون وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وفقده السيطرة والتوازن في الخطاب العالمي باستحضار العاطفية بكل ما تحمله من نتائج غير موضوعية ولذلك من يقرأ الاستجواب يدرك أن تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية «كونداليزا رايس» في مطلع عام 2005 بحديث صحفي مع جريدة واشنطن بوست الأمريكية كان نتيجة حتمية، إذ أعلنت حينها وزيرة الخارجية عن نية الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية في العالم العربي والبدء بتشكيل ما يُعرف بـ»الشرق الأوسط الجديد» بتفتيت القائم وتأسيس كيانات جديدة دون نظر لاستحالة ذلك، وكانت الفوضى الخلاقة من وزارة الخارجية من جهة والتوحش من تنظيم القاعدة وما أفرزه من تنظيمات كداعش والنصرة وغيرهما من جهة أخرى، وكان أبلغ رد هو قول جون نكسون عن ديمقراطية العراق بعد كل هذه السنين فاجتثاث البعث لا يختلف عن تمكين حزب الدعوة...
هل كان السياسيون يدركون خطورة تفتيت الدولة الوطنية في الشرق وتحويلها إلى دولة فاشلة سواء بدعم الثورات فيها أو تفتيت نسيجها عن طريق الطائفية والعنصرية وتأثير ذلك على فرص السلام العالمي؟ وهل يعون أن إصلاح الأنظمة مهما كان فسادها أقل كارثية من تحطيم مفهوم الدولة الوطنية التي تتنامى في غيابها محاضن التدعيش والتطرف والإرهاب؟ وما لفائدة من طرح خارطة جديدة للشرق الذي ما تعافى من نتائج الاستعمار وتوتر نقاط الحدود وملفات الصراع التي تنام ثم تستيقظ فجأة؟
هذه الأسئلة كنت أعتقد أن أجوبتها حاضرة في الذهنية حتى قرأت ما كتبه جون نكسون في الفصل «غطس عميق في المكتب البيضوي» ليكون قدر العالم بعد أحداث سبتمبر ما لا يمكن العلاج منه ولا من آثاره مئات السنين لأنهم فتتوا الدولة الوطنية من جهة وعطفاً عليه فقد أصاب الشرق تسونامي التدمير الذي لحق بنسيجه وكنوزه وإنسانه المحطم، وأدى ذلك التفتيت والغياب إلى غرس بذور الشر في محاضن الإرهاب والتوحش التي تنامت دون رقيب أو حسيب حتى رأينا الخليفة المزعوم يخطب من مسجد معروف وكتائب الرايات السود تصول وتجول في أرض لم يعد لها سيادة بسبب الفوضى الخلاقة والخرائط الجديدة للشرق لتقتل الملايين من البشر وتنتهك أعراضهم وتنهب أموالهم وكرامتهم حينما غاب النظام مع غياب دولة القانون المهيمن على مفاصل الحياة في الدولة التي لا قيمة لها إلا بالوطنية....
والسؤال: ماذا فعل الأمير محمد بن سلمان في تفكيك تحديات الفوضى الخلاقة وتعزيز مفاهيم الدولة الوطنية، وما نتائج استراتيجيته في الداخل والخارج خلال هذه الفترة القصيرة التي تحتاج في نقض عرى الفوضى الخلاقة إلى بيوت الخبرة وعبقرية دوائر الدراسات الاستراتيجية المعتبرة...؟
على الصعيد الدولي أيقن سموه بضرورة مد جسور التواصل والتفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع شرفاء العالم العربي والعالم الإسلامي والمجتمع الدولي، وعزز ذلك انتخاب فخامة الرئيس ترامب الذي أعلن حربه على الإرهاب بكل الوسائل مما أعطى العالم مزيداً من الأمل في القضاء على آثار التوحش الحركي من جهة ونتائج الفوضى الخلاقة ورسم خرائط جديدة للشرق الأوسط الجديد التي كانت برعاية من إدارة فخامة الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن والصقور السياسية في منظومته وحياد من قبل فخامة الرئيس الأمريكي السابق أوباما الذي التزم الانحسار تحت مبدأ عقيدة أوباما ليترك العالم يصارع الموت في العراء وعلاج نفسه بنفسه دونما تدخل ووصاية وجراحات في المشافي المتخصصة وبكل أسف حينما أدار ظهره للمنكوبين والمرضى والمعوزين والمسحوقين والتمدد الطائفي والتدخل في شؤون الآخرين وغض الطرف عن سباق التسلح النووي في أخطر منطقة في الصراع العالمي ليعالج مشكلات الهزات الاقتصادية وطموحات الشعب الأمريكي في القضاء على البطالة والنقص في الخدمات بعد كارثة الانهيار الاقتصادي 2008م...
زار الأمير محمد بن سلمان واشنطن وكسر الرئيس الأمريكي بروتوكولات البيت الأبيض للضيف القادم من الشرق الذي يحمل في قلبه هموم شعوبه وطموحات شبابه، وأكدت آنذاك الصحف العالمية ووكالات الأنباء أهمية ذلك اللقاء وأطلقت على الأمير السعودي ألقاباً التبجيل والفخامة وكأنه يحمل مشاعل النور والمستقبل المضيء لطموحات عالم بلا حدود وبشر يرون ضرورة التعايش والمشاركة في إدارة هذا العالم وتعزيز حقوق الإنسان ورعاية بيئته بالقضاء ابتداء على الفكر المتوحش ونبذ الكراهية في كل أشكالها المقززة، وأثبت سموه أن السلام شراكة عالمية وأن الاقتصاد عمليات تبادل بين الدول والشعوب وأن ليس هناك استعصاء في حل القضايا ما دامت الذهنية السياسية تؤمن بمسؤولياتها تجاه كرامة الإنسان على وجه الأرض وتقلص من صلاحياتها ووصاياتها على الشعوب وأن الوعود بالديمقراطيات وسلطة القوانين كما حصل للعراق لم تعد تنفع في ظل تفتيت الدولة الوطنية ومؤسساتها السيادية وغير السيادية ولن تجدي مسرحيات تمزيق النسيج الوطني والعزف على وتر الوجع الشعبي وآلات المد الطائفي والشنق في الظلام والاستجواب حتى التبول لأن الشعوب أصبحت أكثر وعياً وصبراً وتضحية واختطفت دور البطولة ورفضت سبل التهميش وأدوار الكومبارسية فكانت في حال هي أقدر على تفهم واقع السياسة العالمية. وتوالت بعد ذلك الجلسات حتى أفرزت عن أكبر مؤتمر بين الأمم في ثلاث قمم خليجية وإسلامية وأمريكية وخرجت بتوصيات مهمة للقضاء على آفة الإرهاب دون مجاملة والوقوف بحزم أمام الدول التي ترعاه ليكون أكبر منجز سياسي على الإطلاق في التاريخ الحديث وكان بعبقرية الأمير محمد بن سلمان وفكره الاستراتيجي...
ومما يجب أن يستحضر في هذا الجانب أن رسالته المفهومة من لقاءته «لا صوت يعلو فوق صوت الوطن وأن الدولة تقود ولا تقاد..» وبطريقة غير معهودة قص أجنحة الإرهاب داخلياً وخارجياً وقلم أظافره وحطم طموحاته الشريرة وأخرس أدواته ووسائل إعلامه دونما مجاملة وأعاد صياغة ذلك الخطاب المتوحش المهيمن على الذهنية والذي لم يترك قضية في هذا العالم إلا وكان له رأي فيها بالتأزيم والتشويش والتهييج والتخريب ليكون الخطاب الرسمي خطاباً واقعياً يمثل الإسلام الحقيقي ومنهج السلف الصالح الفريد في ظل مصالح الدولة الوطنية والسياسات الشرعية التي يراها ولي الأمر ضرورة لمصلحة الشعب والأمة واستقرار العالم، ولقد نجح في أنسنة ذلك الخطاب المرعب المتوحش المهيمن سواء في الداخل أو الخارج على مفاصل الحياة وتهذيبه، كما نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليضعه في رحمه الذي يجب أن يكون فيه ليكون مكوناً من مكونات الخطاب العام للدولة الوطنية (الإسلامية) وفق السياسة الشرعية ومناط الأحكام وتقدير المآلات التي تحفظ الضرورات الخمس للبشر، وأدرك أن غياب الترفيه (ضرورة الإنسان) كان المحور الذي يعتمد عليه الحركيون في الاستقطاب بعد تغييبهم المستهدفين وتنويمهم مغناطيساً ليزجوا بهم إلى مناطق التوتر العالمي وبؤر الصراع الطائفي في ظل خطورة تنامي ظاهرة قتل الآباء والعداء مع الأسرة وتفجير المساجد...
كانت الرؤية 2030 حازمة في إعادة الأنسنة والقضاء على التوحش من خلال مجموعة من القرارات المهمة كالاحتفالات الشعبية المنضبطة وإنشاء مدن ترفيه كالقدية وتطوير سواحل الوطن الشمالية والتركيز على تهيئة أكثر جزر وشواطئ وفنادق وأجواء عائلية والتعاون مع القطاع الخاص في إنشاء المرافق الرياضية والنوادي وتشجيعها لتحقيق الإنجازات العالمية ونوادٍ لهواة الإبل والصقور...
صدقاً لقد نجح سموه في فترة وجيزة في تجفيف منابع النفوس الشريرة وتحجيم الأرواح الأمارة بالسوء والكارهة للعالم التي تختصر المشروع الإسلامي العظيم في جلب مزيد من السبايا ودفع الجزية وشن الحروب من وراء القارات على شعوب آمنة لا تستعدي الإسلام وتحترم أهله وتدافع عن قضاياهم المصيرية، بينما الإسلام أجل وأسمى عقيدة وسلوكاً ومنهجاً وإنسانية، منابع كانت تغذي الحشائش السامة التي تنمو في الكهوف والظلام فحطم تلك الكهوف وإنسانها البدائي الطائفي العنصري المتخلف الذي فتكت بعقله السموم ودهاليز الظلام والعشى الليلي فأدخل بعبقريته ضوء الشمس من كل جوانب الحياة لتتحول الحال والمآل بحول الله جل وعلا من حشائش سامة وليال مرعبة وكهوف مظلمة إلى ورود وزهور وبساتين وصباحات مشرقة ينعم فيها الإنسان السوي بالحياة كما يريد الإسلام العظيم...
ومن أكبر التحديات في هذه المرحلة تشويه منهج السلف الصالح الفريد الذي يكفل الاستقرار والتفاهم بين العالم ليخلطوا بينه وبين الحركية والتنظيمات السرية ذات المشروع السياسي والحزبي، ليطرح سموه من خلال لقاءاته بكل صدق أن الإسلام منهج وليس حزباً، وعطفا عليه وتفصيلا لما سبق فإن من ينعم النظر ويمعن الفكر في مسيرته الفكرية منذ البدايات يلحظ همة عالية وتفانياً للقضاء على التشويش في الفكر العالمي وعلاج الخلط الواضح وتحرير المصطلحات الإسلامية مثل مصطلح منهج السلف الصالح ومنهج أئمة الدعوة رحمهم الله وضرورة التفريق بينهما وبين منهج التنظيمات الحركية كالقاعدة وداعش وغيرها، بل إنه انتقد صراحة منهج الإخوان المسلمين الذي لم يكن واضحاً في مسألة السياسة الشرعية، وربما كان ذلك استحضارا منه أن اتهام السلفية والوهابية بالمسؤولية عن الإرهاب والتكفير والقتل غير صحيح وليس موضوعياً من قبل دوائر القرار الغربي، فثمة فرق شاسع بينهما وقد حاول الحركيون اختطاف هذه المصطلحات الإسلامية التي تقوم على السياسة الشرعية وتحقيق المناط وسلامة المآلات وتقديم المصلحة واحترام آدمية البشر وكرامتهم التي لن تتعارض مع النصوص الشرعية في الحفاظ على ضرورات الإنسانية الخمس.
إن هذا التحدي في الفكر الاستراتيجي للأمير محمد بن سلمان ربما هو الأصعب في هذه المرحلة ليكون أكبر إنجازاته الخالدة على الإطلاق هو الرد بأن ما طرحه المفكر وائل حلاق عن أن الدولة في الإسلام دولة مستحيلة نتيجة للتناقض في أدبياتها لتحقق استراتيجيته في الواقع وعن طريق البناء الاستراتيجي أن مفهوم الدولة في الإسلام ليس مستحيلاً ولكن بشرط أن تخليص الإسلام من كل الشوائب التي ألصقه فكر الخوارج وإرهاب الطائفيين، وكنت أعتقد أن الساسة ودوائر الاستخبارات الغربية لا تجهل التفريق بين الإسلام والمسلمين وبين الإسلام والتاريخ الإسلامي وبين الإسلام كمنهج وبين فعل الأتباع حتى قرأت ما أذهلني صدقاً في الصفحات الأولى التي وضعها محلل السي آي إيه جون نيكسون في كتابه السالف إذ تؤكد أنهم لم يعرفوا الإسلام الحقيقي من المزيف ولم يدركوا ضرورة المنهج السلفي لاستقرار العالم ولم يقفوا على الفروق الدقيقة بين الإسلام والإرهاب حينما يتكلم عن السلفية ومنهج السلف الصالح وهو يقصد تنظيم القاعدة والتنظيمات الحركية فقال: «من بين التطورات ذات العواقب المؤثرة خلال السنوات العشرين المنصرمة كان انتشار الفكر السلفي في دول الخليج العربي... كان تفهم صدام للتهديد السلفي ووجهات نظره تجاه التهديد الإرهابي المستوحى من إيران وروابط إيران بمتطرفي الشيعة العراقيين تتسم بالواقعية وبعد النظر...» وهنا تكمن الكارثة حينما يسلم لصدام مقارنة الفكر السلفي مع متطرفي الشيعة وليس بينهما مقارنة، وكان الأولى برجل مخابرات مثله مسؤول عن هذه المنطقة المتوترة في العالم ألا يقدم تقارير مغلوطة للطابق السابع وهو لا يعرف أبجديات الفرق بين أقطابها المؤثرة في مسرح الأحداث، والصواب المقارنة بين تنظيم القاعدة وداعش وغيرهما من التنظيمات والحركات السياسية الراديكالية وبين متطرفي الشيعة الذين يعنيهم...لأن ثمة فرقاً في الأصول والفروع بين منهج السلف الصالح وبين منهج الخوارج الذي عليه منظرو تلك التنظيمات التي تدعي السلفية والانتماء للسلف الصالح كي تستقطب الغوغاء والحدثاء لمشروعها السياسي، ولم يغفل سموه عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك عبر عقود من الصراع فحسم الأمر بقوة وحزم في فرض هيبة الدولة على الواقع بحماية حدودها من الأشرار والحفاظ على مسؤولياتها تجاه المسلمين وحمايتهم من شرور الطائفية وتحمل سموه المسؤولية التاريخية لعمق الدولة في العالم العربيوالإسلامي بخدمة الشعوب العربية والإسلامية وحمل هم قضاياهم ورعاية الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن وزيادة الطاقات الاستيعابية في المستقبل في ظل خدمات أفضل. وتجلت المسؤولية في أبهى صورها من خلال التحالفات والمؤتمرات والزيارات والوقوف بحزم أمام تدخلات الآخرين في شؤون غيرهم من المسلمين وأمام كل من يرعى الإرهاب ويدعم تفتيت العالم العربي وتسمية الأشياء بمسمياتها ولا أدل على ذلك من تدخل خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- الملك سلمان بن عبد العزيز لفتح أبواب المسجد الأقصى مؤخراً...
استحضر الفكر الاستراتيجي للأمير محمد بن سلمان ضرورة منهج السلف الصالح وتعزيز مفهوم البيعة الشرعية لولي الأمر كعقد شرعي واجتماعي بين الحاكم والمحكوم في صورة وعلاقة ملتزمة هي أكبر من كل العلاقات في المشاريع الديمقراطية وصناديق الاقتراع وأجل وأسمى من صرفها لغير مستحقها شرعاً واعتباراً كالمرشد الأعلى عند الأخوان المسلمين والزعماء المجاهيل أهل الكهوف والأدغال عند داعش وبوكو حرام وتنظيم القاعدة وغيرها من الحركات التي في رحمها أو الولي الفقيه عند الغلاة من الرافضة ونص على ذلك صراحة في لقاءته السالفة، ورأى ضرورة ضبط كل تلك المهددات واللبس والفروق الدقيقة وخطورة ذلك على مفهوم الدولة الوطنية والمجتمعات العربية في الشرق بتفتيت الدولة الوطنية وتجزئتها تحت ما يسمى بالفوضى الخلاقة وإفرازاتها فيما يسمى بالربيع العربي فأعلن استراتيجياً مقابل المراهنة على ذلك بتكوين حلف إسلامي كبير للحرب على الإرهاب تأكيد على البعد الروحي للمملكة العربية السعودية في قلوب المسلمين بما وهبها الله من مكونات وخصائص ونعم ومقدسات وولاة أمر عقلاء وضم إلى ذلك الحلف عناصر قوية في مهمتين فكرية وعسكرية ليتأكد ضرورة العمل بهما دون التركيز على أحدهما دون الآخر، وهو ما نتج عنه إنشاء المركز العالمي لمكافحة التطرف «اعتدال» بأحدث الطرق والوسائل فكرياً وإعلامياً ورقمياً، وقد دشنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وضيفه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وقادة 55 دولة عربية وإسلامية خلال 30 يوماً من العمل فقط في القمة الإسلامية الأمريكية...
إن هيبة الدولة الوطنية مطلب شرعي وضرورة دنيوية لضبط الأمن ولذلك كانت أكبر أخطاء مرحلة ما بعد سبتمبر هو تفتيت مفهوم الدولة الوطنية وخلط أوراقها وتشجيع الثورات فيها وتخريب مؤسساتها القائمة وتحويلها من دولة وطنية ترعى مصالح الشعب إلى دولة فاشلة ومستحيلة ومذعورة، وكان الفكر الاستراتيجي للأمير محمد بن سلمان في لقاءته المتلفزة يستحضر ابتداء ما قررته الشريعة الإسلامية من المحافظة على هيبة الدولة وحسم كل ما من شأنه أن يضعف قوتها أو ينال من شكوتها وقطع كل الذرائع التي تفضي إلى النيل من هذا المناط والمصلحة...
ومن يتأمل في لقاءاته -حفظه الله- يتأكد أنه مستحضر أهمية ضبط هيكلة الدولة وفرض هيبة القانون وهما الجناحان اللذان تطير بهما الدولة الوطنية إلى سماء الإبداع والتعليم النوعي والتميز وصناعة الموهبة ورعاية العباقرة تأكيد على أن رؤية 2030 هي أعظم المبادرات التي تعيد الإنسان إلى مربع الحياة الطبيعية التي خلقه الله عليها دون إفراط وتفريط ودون غلو وابتذال، هي مبادرة الإنسان السوي الذي يحب الحياة والموجودات ويتعايش مع من حوله وينبذ العصبية والطائفية والكراهية، وأهمية هيكلة الدولة الحديثة يكمن في قدرتها على التحول والتشكل أمام المتغيرات والأزمات ليطرح سموه اقتصاد ما بعد النفط إيماناً منه بأن الدولة الحديثة هي التي تنوع في اقتصادها وتتغلب على أزماتها وتصدر المعرفة والسلوك القويم والأخلاق، وهي العلاج الأنجع من آثار الفوضى الخلاقة ومرحلة ما يسمى بالربيع العربي وكان سموه يدرك أن ذلك لن يتأتى إلا بصياغة «الدولة الحديثة» فتمت إعادة هيكلة الدولة الوطنية داخلياً استحضاراً لمهمتها الخارجية في مجموعة قرارات حكيمة عن طريق المجالس التنفيذية التي يرأسها سموه ليقضي على كل مشروع صغير ضماناً للمشروع الوطني الكبير، من خلال الرؤية الاستراتيجية «رؤية المملكة 2030» ومبادرة «التحول الوطني» المؤدي لها في 2020... كما أنه يلحظ اهتمامه في ظل هذا النسق الثقافي والسياق الاستراتيجي بتعزيز الهوية الوطنية والفخر بالإرث الحضاري التي ركزت عليها الرؤية ولذلك يلحظ الاهتمام بالفن الإسلامي وإعادة توطين الخط العربي والانتيك الإسلامي لرحمه الحقيقي في الجزيرة العربية وتعزيز ثقافة المتاحف والسياحة الإسلامية وتوطين الكنوز التراثية ولذلك أصدر خادم الحرمين الشريفين مجموعات من القرارات الأخيرة في هذا الاهتمام كتطوير بوابة الدرعية التاريخية وتطوير مدينة العلا الحضارية وإنشاء أكبر متحف إسلامي لتكون انطلاقاً لمبادرات تطوير مناطق أخرى في المستقبل بحول الله.
لقد أدرك الأمير محمد بن سلمان وهو يرسم استراتيجية الرؤية الاستراتيجية 2030 والتحول الوطني 2020 ضرورة تصحيح الموقف الأمريكي في ضبط مسار السلم العالمي والتفاهم مع فخامة الرئيس الأمريكي ترامب لطي الصفحات السوداء في مشروع تفتيت الدولة الوطنية والشرق الأوسط الجديد ونشر الفوضى الخلاقة التي أعقبت العالم العربي دماراً شاملاً أكبر خطراً من أسلحة الدمار الشامل التي كانوا يبحثون عنها وولادة لم تكن من رحم الألم كما قالت كونداليزا بل ولادة قيصرية مات فيها الابن والأم والأسرة العربية وانحسر المد الحضاري للأمة بتكسير كنوزها ونهب مخطوطاتها وقتل عباقرتها وتهجير موهوبيها والقضاء على كرامة العرب التي لم تغب عن مسرح التاريخ الإنساني لتقود الولايات المتحدة الأمريكية على يد فخامة الرئيس الأمريكي البطل ترامب الولادة من رحم الأمل في سفينة الحياة من خلال تخليص العالم من شرور الإرهاب وتجفيف منابعة ومراجعة الاتفاقيات النووية مع دول شريرة تحلم بالتوسع الامبراطوري وغرس المليشيات الطائفية المتطرفة في نسيج الدول المجاورة والتدخل في شؤونها الداخلية وتعزيز مفاهيم الدولة الوطنية وضرورة الاعتناء بها لأنها أم المقاصد الدينية والدنيوية... والله من وراء القصد.