د. خيرية السقاف
هذه الأفواج الهادرة، المتجهة صوب مكة، التي من كل فجٍّ..
لم تعد سبُلها البرّ، والبحر، وعلى كل ضامر، والفلك تحملها..
بل شُقَّت لها مع الموجة المنسابة، والصاخبة، السحب الضبابية المتراكمة، وفسحة الفضاء المنسابة، كما فُردت لها الأرض، والوسائل بمنجزاتها التي شُحذت كلّها على أعنانها، حضر القطار في مكة، وانساب سريعًا في خدمة من زاد عددهم، وعملت الوسائل الرقمية المتطورة في حصد أعدادهم هذه التي فاقت الملايين، وتعجز عن عدها أصابع يد بشرية، كعجز القراطيس الورقية عن استيعابها، إِذ لم تعد فوجًا يتنقل كيفما يشاء، بجهود الأفراد ممن عُهِدت إليهم خدمة الحجيج، بل تطورت لخدمتهم مع المساحة في الأرض، التقانة في الرصد، والبشر في الرِّفد، والوسائل باختلافها، والمنافذ للغاية بائتلافها..
يُرفدون بالاحتفاء، وتُتابع شؤونهم بالآلة، تقوم خدمتهم بكل الأشكال من الإحصاء، والرعاية، والحماية، والتمكين من شعيرتهم، وضمان سلامتهم صحية، ونفسية، وأمنية..
هذه المصحات المتنقلة تزاحم في نظام عدد الحافلات المقلة لهم، والخيام المعدة لإيوائهم، وهذه المظلات تقيهم الشمس، وهذه السواعد من الجنود المرابطين لنصحهم، وتوجيههم، وإخراجهم من المضائق، وهديهم إلى المنافذ، وإنقاذهم من الحشد، وإفساح السبل لهم عند الزحمة، والعناية بكبارهم، وصغارهم..
حشود موازية من خدمة الحجيج لعدد الحجيج ذاته في أهبة اللحظة من وقت الحج خليط من المتطوع، والمشارك، والمكلف، والمسؤول، والطبيب، والممرض، ورجل الأمن، والكشافة، والإعلامي، والعسكري، والمدني، موظفون في المجال، أو متطوعون في الواجب كلهم رجال، ونساء على قدم وساق، لا تغمض لهم عين، ولا يخمد لهم حس، ولا تفتر فيهم جارحة..
الحجيج هنا لم يعد عددًا تحصيه العين البشرية بكفاءة النظر الحاد السليم، وإنما أصبح مددًا تُغمَرُ به أبعاد النظر في هذه العين، ولا تصل..
يوازيه هذا العدد في ضيافتهم مؤهلون، متسابقون، مسخرون، ومتطوعون..
بكفاءة الإعداد، والإنجاز، وبرحابة الروح، واليقين..
الحج الآن، إنجاز فاق التصور بما تم له من إنشاء، وبما توفر له من إعداد، وتوفير، وتمكين..
الحج الآن، مطارات، ومواقف، وطائرات، وسفن، وطرق، وحافلات، وقطار، وبشر، وميزانية، وهدير من المشاعر التي يتحول معها الجماد في كل هذا، إلى نبض في كل هؤلاء من البشر الذين بعد أن يفضي الحجيج آخر مناسكهم، يسقطون بلا حراك في ساحات المسجد تعبًا وإجهادًا، بشاسع من المشاعر، والسعادة لفرط الجهد الذي قدموه، لكنهم يستيقظون على عمق الفرح بما حققوه..
فالحج مبرور نتمناه لكل حاج، والسعي مشكور نرجوه لهم من الله..
ولكل جندي مواطن في هذا الحجيج باختلاف الدور..
من القائد الأول خادم الحرمين، إلى آخر شاب يودع آخر حاج في منفذ لهذا الوطن الكبير...