د. محمد عبدالله الخازم
بدأت مشاورات العيد بأيام. أتذكرهم كطفل صغير في ساحة المسجد، عقب الصلاة، يفاوضون الجار حول حسيلة (الثور) ليتم شراؤه كأضحية. عاد الوالد ليذكر الوالدة؛ الذبح في بيتنا، حضري (الهدم) اللي بنحط اللحم عليه وحدي السكاكين وجهزي حالك تعملين لنا فطور العيد. بعد صلاة العيد، وبعدما غيّروا ملابسهم النظيفة، حضر الجيران المشتركون في الأضحية. كل يحمل سكينه وقفته اللي سيأخذ فيها نصيبه من الأضحية. أحضر الجار الثور وتأكَّد الخبير فيهم من الخشبات الثلاث (لا أتذكر مسماها) والحبال التي ستستخدم في تعليق الثور. نحن الصغار نتفرج على حفلة التمكن من الثور وطرحه أرضًا ثم ذبحه وتعليقه وسلخه. يتبادل المجتمعون النكات والتعليقات وينهروننا أحيانًا بأن نبتعد حتى لا نزعجهم أو حتى لا نوسخ ثيابنا. نفرح حين يطلب منا خدمة تشعرنا بالمشاركة مع الكبار. قبل انتهاء عملية تقطيع اللحم وتوزيعه أسدية (جمع سادي أو حصة) اقتطع ما يكفي للفطور. نادي (العريفة) أخي الكبير؛ خذ هذه أوصلها لأمك. طبعًا مفهوم أنها لأجل إعداد الفطور؛ المقلقل والمرق والكبدة. أتذكر قمة المتعة حينما تم مناداتي؛ هيا خذ هذه السكاكين وضع كل واحدة منها على كل كوم لحم. قمت بذلك فكان نصيب كل منهم حسب سكينة التي وضعتها للتو على اللحم. بعد صلاة الظهر بدأ الجماعة يدورون على بيوت أفراد القرية يطعمون من أعيادهم ما تيسر. التعليقات لا تتوقف حول عيدنا وعيدهم وبعض النكت حول المجموعة التي كادت أن تحرم العيد، حيث هرب ثورهم من بين أيديهم لولا شجاعة أحدهم، أمسك به بعد مطاردة وطيسة في (مساريب) القرية!
بعد عشرين عامًا تقريبًا، عيدي مع والدي كما هو معتاد. لم يكن هناك حسيل العيد ولا زحمة الجيران. أحضر الخروف قبل يوم العيد بثلاثة أيام. ابنتي الصغيرة، ابنة المدينة ذات السنوات الخمس، وبدعم من أبناء وبنات عمها تجرأت ولعبت مع الخروف، أحضرت له العشب ولامسته فأحبته. عقدت صداقة معه خلال يومين، كما تقول. ليس هناك مشاركة جيران أو مشاورات كبيرة. عدنا من الصلاة فشمر كل عن ساعديه (الوالد وإخوتي وأنا) وفي ساحة المنزل بدأنا ذبح خرافنا. المشكلة الكبرى كانت في المناحة التي سببتها ابنتي على مدى يومين، ومصدرها لماذا اعتدينا على صديقها الخروف وذبحناه؟! وكيف نأكل لحم صديقها الخروف؟
بعد عشرين عامًا أخرى في ذات المنزل تقريبًا؛ لا أدري هل أحضر الخروف الذي تكفلت بقيمته أم لا؟. أديت الصلاة وبينما أنا أشرب القهوة مع الوالدين، وحيدًا وبقية الأسرة نائمين، أحضر ابن أخي الشاب لحم الأضحية وأدخله من باب المطبخ الخلفي. لم نستعد للذبيحة ولم نرها واكتفينا بشكره والعودة للنوم بعد إفطار شهي مع الوالدين. وفي المساء التقينا بالجماعة وكان ذلك عيدنا.
يقولون لم يعد للأضحية معنى ولم يعد للعيد طعم كما كان في السابق. ربما في زمن الوفرة وعدم حاجة الناس لبعضها بعضًا، تنتفي بعض مبررات الاجتماعات الأسرية الكبيرة ويكتفى بفطور أو عشاء جماعي، باهت، يختصر العيد بما كان يحويه من زيارات ومسامرات وحلويات وأضحيات...