د. خيرية السقاف
اليوم, هذا الثامن من ذي الحجة, الذي كانت فيه الجموع من الحجيج على أهبة الصعود لعرفات, الذي كان الحاج فيه, والمُعين على قدم وساق..
تُروى فيه الضَّوامر من الإبل, والخيل, والبغال, وتُشحذ القوادم, وتحُمِّل بالزاد, وتزود بما فيه حاجة هؤلاء العباد..
مكة فيه تموج تهليلاً وتكبيراً, وتصطفق جوانبها أجنحة بيضاء حمداً, وتبجيلاً,
وتسير القوافل فيه نحو عرفات,..
اليوم, الماء غامر ميسرٌ في أية بقعة من الطريق,
والضوامر قد أناخت في بواديها, ومراسيها, وحلت الأخرى الجامدة الصامتة مكانها, حيث تُساق تتجه..
وجهٌ آخر ليوم التروية, وأناسٌ آخرون يحملون فكراً متوقداً بالجديد من الوسيلة, والسبيل..
اليوم عرفات كلها مأوى , مجهزة بما للحجيج من ماء, وزاد, ووسادة, وظل..
يوم التَّوجُه لا التروية..
إذ لا عناء يتكبده , ولا مشقة تعتريه, ولا وقتاً يسابق به مسافة الأرض بين داخل مكة العميق, وأبعدها من المشاعر إليها..
الزمن تغيّر, طوى صفحة التواضع في الوسيلة, والمضمون, وبسط صفحات التطور والتقنية والتنظيم, أخذ بالجديد من الوسيلة, والفائق من الأفكار..
اليوم مواكب الحجيج على الضوامر بأعدادها القليلة, غدت مئات ألوف من الأنفاس على المراكب الآلية..
عرفات حيث أقصى المسافات أمتاراً لجبلها العلَم برحمة الله, وشرعية المكان, غدت بسعة الكيلوات, وبما فيها كان من الخيام تحصيها أصابع اليد, والعين المجردة, شسعت بما فاق قدرة هذه الأصابع, ومجال هذه العين أن تحصره, وتحصيه..
اليوم, مواكب الحجيج تهلل في اتجاهها إلى المشاعر..
اليوم يوم التروية الأكبر, ومكة تودع حجيجها إلى هناك, تعود لترتيب منازلهم فيها,
لعودة استقبالهم مبرورين من هناك, ثم لتوديعهم محفوفين بقبول الرحمن, وسعة الجنان..
الحجُّ هنا , هو الحجُّ الذي كان..
غير أنّ صدور البشر قد اعتمرها همُّ الدنيا الأكبر, شاغلتها بغرورها وعَرَضِها, جذبتها لبنائها, وسعتها, أغرتها بزينتها , وسطوتها..
فاللهم أبسط رحمتك على ضيوفك, لا تجعل الدنيا غايتهم, ولا حاجتهم عندك ملذاتها, اكشف همومهم, واشف مرضاهم, وعاف مبتلاهم, وألِّف بين قلوبهم على محبتك, وطاعتك, واملأها بنورك حتى لا تغش, ولا تدكن, لا تبغض, ولا تحقد, لا تظلم, ولا تفرط..
اللهم من هو مديون سدد دينه, بكل أنواع الديون, مادة ومعنى, ومن كان محتاجاً فحقق حاجته وأرضِه بما يريحه, اللهم طمئن قلوباً فزعة, وارحم نفوساً مرضت, وأرشد عقولاً ضلّت, أو غُمَّ عليها بنور الحق تجعله سبيلها, وعَصاتها ..
اللهم اجعله حجاً, ونجاة, حجاً وقبولاً, حجاً وعتقاً من النار, حجاً وصداً عن أخطاء مرت, وعثرات تمّت, وضباباً مرَّ, وغفلة حلَّت, وتيهاً كان, وبلاءً نزل..
اللهم أخرجهم من في يوم عرفات من موطئ وقفَتهم كيوم ولدتهم أمهاتهم غير مَخزيِّين, بل مقبولين مغفورة ذنوبهم, مسددة آمالهم, محققة أمانيهم, مجتمعة كلمتهم على سواء حق..
رضاك رضاك, وجنّاتك العليا..
الحجُّ اليوم هنا, وهنا كلُّ حجٍّ, وكلُّكم بخير..