د.زيد محمد الرماني
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، ثم: الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور)) رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله تعالى فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه يباهي بهم الملائكة)) رواه مسلم.
لقد اشتملت فريضة الحج على حكم جليلة ودروس وعظات وعبر وفيرة.
ففي الحج إظهار للتذلل لله عز وجل، وذلك لأن الحاج يترك أسباب الترف والتزين ويلبس الإحرام، مظهراً فقره لربه، ويتجرد في هذا السفر عن الدنيا وشواغلها التي تصرفه عن الله سبحانه فيتعرض بذلك لمغفرة الله تعالى ورحمته.
ثم يقف الحاج في عرفات ضارعاً لربه، حامداً شاكراً نعمة الله مستغفراً لذنوبه وعثراته.
إن أداء فريضة الحج يؤدي شكر نعمة المال وسلامة البدن، وهما أعظم ما يتمتع به الإنسان من نعم الدنيا. وفي الحج شكر لهاتين النعمتين العظيمتين، حيث يجهد الإنسان نفسه، وينفق ماله في طاعة ربه والتقرب إليه.
إن الحج يربي النفس على روح الجندية، بكل ما تحتاج إليه من صبر جميل وتحمل الأذى ونظام عسكري منظم يتعاون به المرء مع الناس، ألا ترى الحاج يتكبد مشقات الأسفار!! حتى يتجمع الحجاج كلهم في ((مكة)) حرم الله، ثم ينطلقون جميعاً وهم في ذلك من ذي الحجة لأداء المناسك، ويقيمون ويتحركون جميعاً، مسرورون إنها تنقلات كشافة روحانية.
وهناك تزول الفوارق بين الناس، فوارق الغنى والفقر، فوارق الجنس واللون، فوارق اللسان واللغة، تتحد كلمة الإنسان في أعظم مؤتمر بشري، مؤتمر كله خير وبركة وتشاور وتناصح وتعاون على البر وتآزر، مؤتمر عظيم.
مؤتمر الحج تجتمع فيه الكلمة على البر والتقوى وعلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر والسهر على مصلحة الأمة، هدف هذا المجتمع والتجمع العظيم ربط أسباب الحياة بأسباب السماء.
ففي الحج ذكريات غالية، تغرس في النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الذي لا يتناهى لأوامر الله وشريعته.
هناك، في البقاع المقدسة والأماكن الشريفة العبرة تنبثق، فعند البيت العتيق حط أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام رحله بزوجته هاجر وولده إسماعيل.
كما أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه في حديث طويل قال فيه: جاء بها ((هاجر)) إبراهيم عليه السلام وابنها ((إسماعيل)) وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضع الأم وابنها الصغير.
هناك بوادٍ غير ذي زرع، ووضع عندها جراباً فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قفى إبراهيم عليه السلام منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل قائلة: أين تذهب؟ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه حيوان ولا إنسان.
فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي ((أمرك)) بهذا؟ قال الخليل إبراهيم: نعم قالت: إذن لا يُضعينا. ثم رجعت حيث طفلها الصغير وانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند ثنية الوداع، حيث لا تراه زوجه، استقبل البيت بوجهه ثم دعا بهؤلاء الكلمات {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ...} (37) سورة إبراهيم.
هناك في ذاك القفر الأجرد نبعت «زمزم» بين يدي إسماعيل، وكانت هذه الماء له ولأمه آية يعتبر بها الناس. فقد أصبحت تلك الأسرة الصغيرة نواة الحياة وبذرة العمران في ذلك المكان وجاء لصحراء جزيرة العرب بشرف النبوة والرسالة، وحُقّ لمن خضع لأمر الله ذلك الخضوع أن يكون أهلاً لذلك التكريم، وأن يقيموا بناء البيت الذي تهوي إليه أفئدة أهل الإيمان.
فسيروا معشر من آمن بالله على طريقهم، واحفظوا أمر الله، ودينه فيكم، يحفظكم ربكم وينصركم.