سعد بن عبدالقادر القويعي
تسييس أحد أركان الإسلام إلى فوضى سياسية لم يُعرف في تاريخ الإسلام, بل لا يوجد مستند شرعي يدل على مشروعيته. وبالتالي، فإن تسييس الحج, يُعتبر إرهابا للآمنين وقضّاً لمضاجع الساكنين، وإظهاراً لنعرات طائفية حاقدة, تُعبّر عن انحطاط في الفكر الملوث بمعتقدات فاسدة, تعتقد -مع الأسف- أن الحج مسرح للشعارات, وتصفية للخصومات، وكذبا -زعموا- إذ لا رفث ولا فسوق ولا جدال في البلد الحرام, والأشهر الحرم. والتاريخ يشهد بأن كل من أراد إحداث فتنة في الحج فإن فتنته تُكشف وإجرامه يُجهض.
الحج منطلق لأعظم حضارة عرفها التاريخ ومؤتمر لجمع كلمة المسلمين في نسق واحد في الصفة والتنفيذ والأداء, -إضافة- إلى أنه يُعبر عن وحدة متكاملة في الزمان والمكان والشعائر. -ومن ثم- فإن أي دعوة تعكّر صفو أمن الحجاج, وتجلب لهم الفوضى بأي شعار كان أو طائفية مقيتة, أو حزبية ضيقة, تُعتبر دعوى باطلة, ولاغية لا تختلف عن الطقوس الوثنية التي عُرفت في ديانات أخرى لا أصل لها.
إن من سداد البصيرة إدراك مقاصد العبادات التي لأجلها شرعها الله؛ وحتى لا يضيع الجهد هباء فإن تحذير السعودية في موسم كل عام بأنها ستقف وقفة حازمة أمام أي مجاميع تريد المساس بشعيرة الحج يُعتبر تطبيقا لمبادئ السياسة الشرعية كونها مؤتمنة على مصالح المسلمين وانطلاقا من قاعدة: «التصرف على الرعية منوط بالمصلحة» , وهذا بيان للحكم الشرعي بأنه لا يحل لأحد ممن تولى أمراً من أمور المسلمين أن يتجاوز ذلك، وهو مسؤول أمام الله - تعالى - عن هذه الأمانة. ويكفي أن ولي الأمر في هذه البلاد, قد ارتضى لنفسه لقب خدمة الحرمين الشريفين ، ويكفي أن تبذل الدولة جهودا مضاعفة في خدمة حجاج بيت الله الحرام وتقديم أرقى الخدمات لهم ضمن منظومة أمنية متكاملة .
-وبالتالي- فإن الدعوة إلى إثارة الفتن وتصفية حسابات طائفية أو عرقية, أو رفع شعارات سياسية؛ من أجل تحقيق مآرب إقليمية وعرقية, لا تتناسب مع الالتزام بتحقيق مقاصد الحج الشرعية المذكورة في قول الله - تبارك وتعالى - : «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج». ومن ثم , فإن السياسة القائمة للمملكة لا تسمح لأي جهة كانت بتعكير صفو الحج, أوالعبث بأمن الحجيج.
لم تدخر المملكة جهدا في أداء هذه الرسالة العظيمة بما يمكن حجاج بيت الله الحرام من أداء شعائر حجهم في أمن واطمئنان, فهي المسؤولة لتحمل مسؤوليتها بعقل ورشد وحكمة. ومع كل الظروف والمتغيرات فإن المملكة تدرك أن دورها في شعيرة الحج ليس لتحقيق أهداف سياسية, أو تسييس مناسبة دينية - لاسيما - ونحن نعيش أوضاعا إقليمية قلقة ومتوترة. فالحج شعيرة دينية لا تسييس لها ولا دخل للسياسية فيها, ولم يكن يوما مناسبة لنشر النعرات السياسية أو الطائفية؛ من أجل إثارة القلاقل وبث الفتن ونشر الشقاق واستعراض القوة دون مراعاة لما يتطلبه موسم الحج من التفرغ لأداء الشعيرة والتي تتنافى مع الفريضة والغاية الروحانية منها.
حين يقف أكثر من ثلاثة ملايين مسلم فوق جبل عرفة لتأدية فريضة الحج فهذا دليل على أن الشعيرة المقدسة هي للعبادة, «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج».
فالحج ليس مسرحا لشعارات هوجاء أو تصفية خصومات مع الآخرين, فالعبادات - جميعها- تلتقي عند غاية واحدة , هي: تحقيق العبودية لله. ومن أعظم العبادات في تحقيق العبودية لله, عبادة الحج. فالحج أحد أركان الإسلام, فرض في السنة التاسعة من الهجرة النبوية. وشرع لمقاصد سامية وغايات نبيلة وأهدف عظيمة. وقد أجمع المسلمون على وجوبه مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا.
في قول الله - جل وعلا - : «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود» مقصد عظيم من مقاصد الحج، هو: تحقيق العبودية لله والبراءة من الشرك وأهله. إذ إن أداء الحج على الوجه المشروع, يغرس في نفس المؤمن قيمة الطاعة, والامتثال الكامل لأوامر الله, غير منتهك شيئا منها بقول, أو فعل. فتجد الحاج يطوف حول البيت ويسعى بين الصفا والمروة, ويقف في صعيد عرفات, ويبيت بمزدلفة, وكذا يبيت في منى في ليالي التشريق, ويرمي الجمرات, وينحر هديه, كل ذلك تحقيقا للتوحيد, وهو : مقصود العبودية الأعظم.
إن من أهم مقاصد الحج وحكمه, وأسراره البالغة: إخلاص العمل لله -تعالى- فإن الله لا يقبل عملا إلا ما كان خالصا له، صوابا على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ألم يقل الله - جل في علاه - : «وأتموا الحج والعمرة لله»؟ . وتأمَّل كيف لبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج, عندما رفع صوته قائلا: «اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعه» , ثم نادى «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك»؛ فقد صدع بالتلبية استجابة لله ولذاته ونفيا للشريك عنه. فعبادة الحج عبادة خالصة لله وحده, ليس لأحد فيها نصيب, لا فخر, ولا رياء, ولا سمعة.
ثم إن تحقيق معاني الوحدة وتوثيق عرى الأخوة الإسلامية من أهم مقاصد الحج؛ حيث ترى ذلك واضحا في اجتماع المسلمين من كل جنس ولون ولغة ووطن, في صعيد واحد, في أرقى صورة وأكمل مشهد. فتتجلى وحدة الهدف والشعائر والمشاعر والقول والعمل, وتتراجع كل الموازيين والمعايير, ولا يبقى إلا معيار واحد وميزان واحد, في إئتلاف إيماني بينهم, هو: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
إن تعظيم شعائر الله بأداء نسكه، واستحضار معنى العبادة, وتزكية النفس, واستقراء المعاني والمقاصد من وراء الصور والأعيان في تلك الشعيرة هو من أعظم مقاصد الحج وحكمه وأسراره. فيكون الحج - حينئذ - مبرورا , تتيقظ به الضمائر الحية, وتشد به العزائم المؤمنة، ويتجدد به الإيمان ويتحقق به التوحيد.
كما أن ميدان الحج هو الأمن. وإذا كان الله -جلّ وعلا-, قد حرّم اصطياد الصيد في البلد الحرام وتنفيره من أوكاره أو قطع شجره, وقلع حشيشه, فإن رعاية الإنسان ومكنوناته الداخلية تجاه الإنسان الآخر , هو أحد مقاصد الحج وإيماءاته المتعددة للأمة. فأعظم ما يحتاجه الحاج؛ لأداء هذه الفريضة هو الأمن فمن دخل البيت الحرام كان آمنا على نفسه وعرضه وماله, -وحينئذ- لا يجوز التعدي عليه, -خصوصا- وأن البلد حرام, والشهر حرام.
من جانب آخر, فإن التأكيد على ما ورد في بيان هيئة كبار العلماء بأن : «مواقف المملكة الحازمة في منع من يحوِّل الحج إلى منابر تتصارع فيها الأفكار والأحزاب, والطوائف؛ باعتبار أن تلك المواقف مما يحفظ للشعيرة طمأنينتها، وللأمة وحدتها», - إضافة - إلى تشديدها, على أن: «من ثوابت الدولة المباركة أنها لا تمنع أحدًا قصد هذا البيت مهما كان موقفه السياسي أو توجهه المذهبي» هو تأكيد في واقع الحال على ألا يفوت المرء على نفسه من النفع الكبير حين يؤدي عبادة الحج بمعزل عن إدراك المقصد الأسمى, الذي شرعت من أجله.
إن كل عبث بهذه الفريضة عن طريق القيام بأعمال لم ترد في مناسك الحج -سواء- لأغراض سياسية, أو لأهداف أخرى يُعد خطأً جسيماً. وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بيانا لفت -من خلاله- إلى أن الغاية من التحذير والنهي عن الفسوق والجدال هي تعظيم شعائر الله وحرماته والوقوف عند حدوده والحرص على توفير الجو الآمن في المشاعر المقدسة.
ومن توحيد الله عز وجل وتعظيمه وتعظيم شعائره : عدم مزج أعمال الحج المشروعة بغيرها واستغلاله بما ليس منه فكل هذا عبث، ودفع للحجاج إلى أعمال وأفعال لم ترد في كتاب الله -عز وجل- ولا نقلت عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ، ولم يفعلها سلف هذه الأمة من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم، وإنما هي بدع منكرة مضلة، تبطن الإساءة إلى أمن الحرم وأمن الحج والحجاج، وتصرفهم عن أداء المناسك في أمن وطمأنينة، وتعكر صفو الحج وتصرفه عما شرع من أجله، وتجعله بعيدا كل البعد عن قدسيته, وروحانيته، وتزعج ضيوف الرحمن الذين قطعوا المسافات ليذكروا اسم الله في أيام معلومات، وتشوش عليهم.
عدم الدعوة إلى تأمل مقاصد الحج الجليلة والغايات والحكم والدلالات, -ومثله- عدم الانشغال بالأحكام الفقهية الدقيقة هو ما أضعف أثر الحج في إصلاح النفوس والمجتمعات. وعكس ذلك سينقل العبادة من مجرد طقوس وشعيرة إلى روح ومعنى ومشاعر. ومن أكرمه الله باستشعار هذه المعاني والمقاصد سيتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه, وآثامه ويعينه على الثبات.
إن متانة الأواصر التي تربط بين الدين بالمقاصد والحكم هي مدارج الكمال المنشود وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلي شأنها. وعندما أتأمل قول الله -جلّ في علاه-: «وليشهدوا منافع لهم», كثيرا ما أتساءل: كم تبعث هذه الآية الأمل في النفس لتمنح الإنسان مزيدا من الجد, والعمل. فمنافع الحج ذات مقاصد, وأبعاد شخصية ومجتمعية وأخلاقية وتربوية, وسياسية واقتصادية, إذا انكشف بابها ظهر من أسرارها ما يقتضيه صفاء القلب وغزارة العلم والفهم. إذ إن المقصود الأول من تشريع العبادات هو إصلاح الإنسان وتهذيبه وتربيته, وترويضه على الفضائل, وتطهيره من النقائص وتحريره من رق الشهوات, والرقي به إلى أعلى المقامات.
في المقابل , فإن المملكة تضع كافة إمكاناتها في خدمة الحجاج وذلك من خلال جاهزيتها الكاملة لكل ما هو إداري وأمني وصحي، والعمل - أيضا - على إيجاد حالة من التكامل بين مختلف المؤسسات والقطاعات فتسخر لأجله كل الإمكانات, وتذلل كل العقبات من أجل ضمان نجاح موسم الحج, وسلامة ضيوف الرحمن, بحيث يكفل ذلك حجا أكثر سلامة واطمئنانا وأمانا, فمعنى ذلك أنك ستشهد حجا أكثر تطورا وتقدما, وبعداً عن كل المزايدات السياسية التي تجعل من الحج مكانا لترويج الشعارات ورفع الهتافات, وهي في - نهاية المطاف - لا تخدم الإسلام , ولا المسلمين.
تتجلى في كل عام منظومة الخدمات التي تقدمها الدولة السعودية بكل أنواعها - الأمنية والصحية، إضافة إلى وسائل المواصلات الحديثة كقطار المشاعر, والطرق السريعة التي تربط المشاعر بعضها ببعض، وكذلك المشاريع التاريخية الهائلة التي أسهمت في تسهيل أداء الحجاج لهذه الشعيرة كتوسعة المسعى, وتوسعة الحرم المكي, والمسجد النبوي وتعدد أدوار رمي الجمرات في منى, وغيرها من المشاريع الجبارة التي نفذتها الدولة السعودية.
أهم نقطة في هذا السياق, تتمثل في أن أمن الحجاج من أولويات مسئولي الدولة ومن أوجب الواجبات. قلّ أن يتكرر له مثيل في خصوصية - الحدث والمكان - ، وفي توقيت تنقلات الحشود بين المشاعر -في وقت واحد- بهذه الإنسيابية، ولأنه من الخطأ تسييس الحج أو أن يكون مثقلاً بتبعات الانتماء لبلد معين أو حزب أو طائفة, أو جماعة, فإن العمل على نهج سياسة خلط الأوراق، واللعب على التناقضات التي تؤدي إلى حدوث انشقاقات, وتصدعات إن لم تكن مواجهات في الصف - العربي والإسلامي - , يعتبر محاولة لإشعال الفتنة وإلهاء الحجاج عن مقصد الفريضة, كما أنه يحمل في طياته فتناً كبيرة.
رسالة واضحة المعاني والدلالات, بأن : « أمن الحج « خط أحمر, لا يقبل المزايدات أو العبث من كائن من كان, قابلتها - مع الأسف - رسالة رخيصة من النظام القطري حين فتحوا الباب على مصراعيه لوسائل إعلامها - المقروءة والمسموعة والمرئية -, وشن هجوم شرس على السعودية بهدف النيل من قادتها فى محاولة لتسييس الحج؛ بغرض تحقيق أهداف سياسية هدفها النيل من السعودية وإهانة رموزها وقادتها, بعد أن أصبح افتعال الأزمات وصناعة الفتن منهجا ثابتاً لديهم وعلامة مسجلة لتصرفاتهم الحمقاء.
الأساس الشرعي الذي قال به علماء الأمة هو الأساس الذي تستند إليه الأنظمة في المملكة والتي ترفض أن يكون الحج وسيلة أو ظرفا يستغله البعض لأهداف خاصة تثير الأحقاد وتوغر الصدور, وتفقد الحاج الأمن والسكينة المعينة على أداء نسك الحج على الوجه الشرعي؛ انطلاقا من أن تسييس الحج أمر محرم شرعا, ومخالف للأنظمة المعمول بها في المملكة لأنه يؤدي إلى الفتن وشق الصف, ووسيلة إلى الإفساد المنهي عنه شرعا.
بقي القول: إن ما تقوم به حكومة -خادم الحرمين الشريفين- من جهود مضنية على كافة الأصعدة؛ ليتمكن الحجاج من أداء مناسكهم بيسر وسهولة, ويعودوا إلى أوطانهم -آمنين مطمئنين- , يندرج في تحقيق المصالح - التي أشرنا إليها آنفا - بغض النظر عن أن يكون ذلك وهجا إعلاميا فحسب, بقدر ما هو دحر للأصوات الشاذة التي تستهدف الحقائق وتستغل كل شاردة وواردة من أجل الإساءة إلى المملكة, دون أن يستذكروا هذا التاريخ الطويل عن إسهامات هذه البلاد في تسهيل شعيرة الحج, وما تقدمه للمسلمين؛ من أجل العمل على تيسير أداء المناسك، ولتكون هذه العناية هي المفتاح الذي تدخل - من خلاله - هذه البلاد إلى قلوب المسلمين وتنال مكانتها اللائقة بها.