د. محمد بن يحيى الفال
قبل أيام خلت تناقلت وسائل الإعلام المحلية في المملكة وكذلك العديد من وسائل الإعلام في العديد من الدول خبر وصول الحاجة الإندونيسية مارية محمد مارغاني إلى مطار الملك عبدالعزيز بجدة، بوابة المملكة الرئيسة لاستقبال الحجاج من ضيوف الرحمن القادمين لأداء فريضة الحج ومن المعتمرين. الخبر لأول وهلة يبدو أمراً طبيعياً وبالتدقيق في مضمونه يتضح سبب اهتمام وسائل الإعلام بتغطية خبر وصول الحاجة مارغاني كونها تخطت المائة بأربع سنوات من عمرها المديد.
قدمت الحاجة مارغاني ضمن ما مجموعه 221 ألفاً من الحجاج، هم حصة بلادها إندونيسيا التي تعتبر البلد الإسلامي الأول في عدد السكان وكذلك في عدد الحجاج في كل سنة. أدت مارية مناسك العمرة قبل أربعة عشر عاماً عندما كانت تبلغ التسعين من العمر، وها هي الآن تؤدي مناسك فريضة الحج بكل حبور وحب وعاطفة نابعة من القلب لتمكنها من تأدية الركن الخامس من أركان الدين الإسلامي الحنيف. لم يمنع مارية من تلبية نداء الحج كبر سنها، أو ضعف جسدها، أو عناء ووعثاء السفر. جاءت من بلد عزيز لم يسيس الحج في تاريخه كحال غالبية دول العالم الإسلامي، ولتسجل بحجها رسالة مفادها بأن الحج عبادة خالصة لله عز وجل. استقبلت مارية بفرح وغبطة من الجميع وهو الحال الذي يُستقبل به كل ضيوف الرحمن، زاده احترام كبر سنها وعزيمتها الحديدية لتحقيق رضا وطاعة الله. لم تتعلل مارية بظروفها غير المواتية في تحقيق رغبتها لأداء فريضة الحج وهي ظروف لو وضعت في تحكم دولة تعيق حجاجها من تأدية الحج لكانت مارية ضحية لها. بيد أن الله قوض لها من جهة دولة بلدها التي لم تسيس الحج عبر تاريخها أو تضع العراقيل والحجج الواهية لمنع مواطنيها من تأديته، ومن جهة أخرى قوض لها المملكة التي وضعت راحة وأمن الحجاج على رأس اهتماماتها، وشرف تعتز به وتفخر به وتقدم له الغالي والنفيس وذلك منذ أن وحدها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه. وكما أن السيف أصدق أنباء من الكتب كما جاء في قصيدة أبي تمام الشهيرة، فإن جهود المملكة في رعاية شؤون الحجاج تتحدث عن نفسها ولا ينكرها إلا حاسد وحاقد، وهي جهود لا تخطيها أعين الحجاج أنفسهم، بالآلاف من موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين ومتطوعين وكشافة وأطقم طبية مدربة وتجهيزات صحية وبأفضل المستويات الصحية العالمية المتعارف عليها دولياً، التي جعلت مندوبة منظمة الصحة العالمية تصرح بدهشتها للمستوى الصحي الراقي الذي تقدمه المملكة وبالمجان لضيوف الرحمن وبأنها لم يكن لها أن تصدقها لولا أنها اطلعت عليها بنفسها.
كان أعلاه حكاية مارية وأدناه حكاية قائمة الدول التي تسيس الحج وتتهم المملكة بذلك، هي قائمة يجمعها محاولة تضليل الرأي العام الذي أضحى فيه الجميع على إطلاع ودراية بالحقائق التي لا لبس فيها والتي يلجأ إليها مسيسيه لأغراض سياسية، ويأتي النظام الإيراني على رأس القائمة ككبيرهم الذي علمهم السحر، سحر التسييس الذي انقلب عليه وعلى من يدورون في فلكه كالنظام السوري الدموي، ومليشيات الحوثي والمخلوع صالح الانقلابية ودولة قطر التي سخرت نفسها طواعية كأحد أطراف المثلث المسيس للحج بإدارة العراب الإيراني الذي حاول ولم يفلح عبر السنوات الماضية في تعكير صفو سلامة أمن الحج وتسييسه، وكان آخرها منعه حجاجه من القدوم للحج العام المنصرم برفضه التوقيع على محاضر بحجة واهية تتعلق بضرورة حصول حجاجه على تأشيرات من داخل إيران بعد أن أحرق غوغائية سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مشهد، عليه فهو من منع حجاجه وهو من أحرق ممثليات دبلوماسية تحميها المواثيق الدولية وتحترمها الدول حتىفي زمن الحرب. الضلع المجرم لمثلث النظام الإيراني لتسييس الحج يتمثل في النظام السوري الدموي الذي قتل الآلاف من شعبه وشرد الملايين، لم تمنعه جرائمه الشنيعة بحق شعبه التي يدني لها الجبين من ترديد مقولة عرابه الإيراني المفضوحة بأن المملكة تسيس الحج، والحقيقة التي لا غبار فيها هي أنه وبعد اندلاع الثورة السورية وبسقوط شرعية النظام بعد ما ارتكبه من جرائم دموية فظيعة وإبادة جماعية بحق شعبه، فوضت المعارضة السورية التجمع الوطني السوري المكون من كل أطياف الشعب السوري لإصدار تأشيرات الحج للسوريين من خلال اللجنة السورية العليا للحج التي باشرت مهامها منذ عام 2012. الضلع الآخر من مثلث تسييس الحج الموجه من النظام الإيراني نراه في اليمن بميليشيات الانقلابيين من عصابتي الحوثي والرئيس المخلوع، الذين عُرف عنهم بأنهم يكذبون كما يتنفسون كحال عرابيهم في طهران، وليس كذبة تسييس الحج إلا واحدة من أكاذيبهم التي لا تعد ولا تحصى، والحقيقة التي يعلمها اليمنيون قبل غيرهم بأن هذه المليشيات تمنع وتسطو على الحجاج اليمنيين الراغبين في تأدية فريضة الحج كما تفعل العصابات أين ما حلت، وتمنعهم من المغادرة للحج، وتفرض إتاوات على من تسمح لهم بالمرور للحج عبر المناطق التي يسيطرون عليها. الضلع الأخير لمثلث تسييس الحج المُدار من قبل العراب الإيراني وجد ضالته في قيادقطر التي انطوت تحت لوائه المُسيس للحج وبحماس ملفت للنظر، نراه في خطواتها التي تتنافي مع كل الروابط التي تجمع شعوب الخليج العربي تحت مظلة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لتعلن بأنها ستتقدم بشكاوي ضد المملكة لتسييسها الحج لأكثر من 600 منظمة حقوقية وأممية وإقليمية، وقبل ذلك وبسبب الأزمة معها تقدمت بشكاوى لمنظمة التجارة العالمية والمنظمة الدولية للطيران المدني وغيرها من المنظمات، ليقف المراقب حائراً أمام كل هذه الخطوات التصعيدية وتزداد حيرته عندما يسمع وزير الخارجية القطري وهو يدندن باستمرار بأن الأزمة الخليجية يجب أن تحل ضمن البيت الخليجي، مقوضاً بذلك كل الجهود الخيرة والمقدرة التي سعي لها ومنذ بداية الأزمة الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت الشقيقة. وبرغم الأزمة السياسية مع القيادة القطرية وجه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود باستضافة كل الحجاج من الأشقاء القطريين على برنامجه المخصص لاستضافة ضيوفه للحج والعمرة، وفتح معبر سلوى الفاصل بين البلدين لمن يرغب بالسفر عن طريق البر، وجهزت طائرات الخطوط السعودية لنقلهم مباشرة من الدوحة للمملكة، وتم إعفاؤهم من الحصول على التصاريح الإلكترونية لأداء الحج، فأين التسييس!؟ الواقع والحقائق تؤكد بأن المملكة لم تسيس كل قضاياها مع أشقائها في الإسلام والعروبة، ولو كانت تفعل ذلك لكان الأحرى بها أن تسيس الحرب ضد الانقلابيين في اليمن من خلال ترحيل أو التضييق على أكثر من مليون من الأشقاء الأخوة اليمنيين الذين يعيشون ويعملون بأمن وسلام بين أهلهم وأخوتهم في المملكة. شتان بين حكاية المسنة الإندونيسية مارية مارغاني التي ومع كبر سنها ضربت مثلاً يحتذى به في نُبل رسالة الحج الإيمانية وبين مسيسه من مثلث التسييس بقيادة عرابهم المتمثل بالنظام الإيراني. ستبقى المملكة مستمرة في تحمل مسؤوليتها التاريخية التي تتشرف بها تجاه خدمة ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين، وتجاه أمتها العربية والإسلامية والإنسانية عامة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ملك الحزم والعزم، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود. ولعل أفضل رد على مسيسي الحج نجده في أبيات أبي الطيب المتنبي بقوله:
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ
وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها
وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ