عبدالعزيز السماري
قد تعجز كتب التاريخ والفلسفة السياسية عن وضع نموذج أو خطة محكمة لتطوير نماذج السلطة في التاريخ الإنساني كما تظهر على سبيل المثال في صورتها البدائية في أدغال إفريقيا، وبين آخر ما توصلت إليه كما تبدو في إسكندنافيا. فالتاريخ يصنعه العظماء والرموز المؤثرون في تطور الفكر الإِنساني..
السلطة في أنماطها البدائية تكون كالقبضة الحديدية التي تصل إلى الجميع بلا استثناء. ومهمتها وضع حدود للتفكير في عقول البشر، ومراقبة ممارستهم الشخصية. بينما تبدو في صورتها الأحدث أقرب للنموذج الإداري أو كتلك التي تمنح للحريات حدود قصوى، ولكن تحرسها قوى القانون عندما تتحول إلى سلوك أو سلطة معادية للآخرين في حرياتهم.
في التاريخ القديم كانت أسهل الطرق لإحكام السيطرة على العقول هو الحكم من خلال المقدس، الذي يختلف باختلاف الثقافات، ويقوم رجال الكهنوت في الأزمنة الغابرة بدور قيادي في إحكام القبضة الحديدية، وذلك من أجل السيطرة على غرائز والسلوك البدائي للبشر، لكنها مع مرور تتحول تلك السيطرة إلى مكاسب ومغانم، ومنها تتغير أشكال السيطرة وأنماطها، وتتشكل بسبب ذلك الطبقية في المجتمع، وهكذا..
تكون أول مراحل الافتراق بين السياسي والديني عند ظهور أول خطاب سياسي مرن أو براغماتي، وذلك لتجاوز بعض الخطوط الحمراء في المقدس السياسي، فالصراع مع الخارج يتطلب خطابًا مختلفًا عن الخطاب المقدس الموجه للداخل، وتعد هذه أول مراحل الصراع داخل السلطة في المجتمع، وينتج عنها ظهور مختلف نوعًا ما لوجه السلطة، وبالتالي ينتقل المجتمع إلى طور آخر في مراحل تشكل السلطة في المجتمعات التقليدية.
تعد هذه المرحلة أخطر مراحل التطور في مظاهر السلطة، وفي داخلها تبدأ مراسم العمل من أجل إيجاد البديل المقنع للخطاب المقدس في مسألة إحكام القبضة على المجتمع، وتواجه عادة السلطة عدة صعوبات في الأمر، فالأمر يحتاج إلى عقول غير عادية من أجل سلامة الانتقال من مرحلة إلى أخرى.
كانت أشهر أمثلة التطور في مفهوم السلطة أن صح التعبير ما حدث في فلورنسا، فقد قام ميكافيلي بالدور المكمل في مرحلة الانتقال في حقبة انفراد السلطة الزمنية بالسلطة، فقد كان نظام الحكم في البدء هو عبارة عن اتحاد تام بين السلطتين: الروحية، (الكنيسة) والزمنية، (القيصر)، الذي كان يحكم إما وفق نظرية الحق الإلهي أو شبه إلهي..
من خلال قراءة متأنية لكتاب الأمير. يمكننا إدراك الدور الكبير الذي قام به ميكافيلي، الذي كان خلاصة مكملة لجهود مثقفين ومفكرين تنويريين في المجتمع. وقد كانت أول لبنات تطور الفكر السياسي، بل في تطور مفهوم الدولة، وقد قرر التصدي لسلطة المؤسسة الدينية، بعدما أيقن ألا تقدم جوهري مع هيمنة الكنيسة، وكان لا بد له من أن يعتمد في مهمته على السلطة الزمنية من أجل الحفاظ على الدولة.
كان ميكافيلي ينطلق من فكر أرسطو. فالدولة تأتي دومًا أولاً، وأعلن رؤيتة لتلك المرحلة دون خشية من الكنيسة، وعلى الرغم من أنه كان متدينًا، لكن لم يكن للسلطة الكنسية مكانًا في عقل ميكافيلي، وواجه بسبب ذلك العداء السافر من رجال الدين، لكن الهدف تحقق في نهاية الأمر، وكان بمنزلة الباب المفتوح نحو التقدم إلى الأمام في مفهوم الدولة..
كان ذلك بيت القصيد في التاريخ السياسي الأوروبي، فقد نجح العقل الفلسفي السياسي في إخراج رجال الدين من المسيرة السياسية لتطور مفهوم الدولة، وكان ذلك بمنزلة المدخل الكبير في أوروبا، وكان نقطة التحول لتجاوز السلطة الدينية في الفكر السياسي الأوروبي في القرون الوسطى..
من خلال هذه الفقرة المضيئة في تاريخ أوربا، قد نستطيع فهم أسباب سقوط الدول في تاريخ العرب في القرون الوسطى، فالدولة دومًا ما تسقط وتعود مرة أخرى إلى أحضان رجال الدين في صور متكررة، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى إعاقة مفهوم تطور الدولة أو الوطن للجميع في تاريخ العرب.
بإيجاز مهدت تجربة مكيافيلي إلى رسم بقية مراحل التطور الإنساني في مفهوم الدولة في التاريخ، وأكمل المهمة رموز المراحل التالية فولتير ومنتسكيو وجون لوك ووجان جاك روسو وغيرهم من المفكرين التنويريين الليبراليين. لكن يبقى ميكافيلي إلى الأبد نقطة تحول مهمة في تاريخ الفكر السياسي في العالم..