د. حمزة السالم
لا يخلو مجتمع إنساني من محافظين متشددين، تقوى شوكتهم حيناً وتضعف حيناً آخر، وتقوى شوكة المحافظين المتشددين عادة مع تخلف مجتمعاتها أو مرورها بأزمة سياسية أو اقتصادية خطيرة. ويُطلق وصف المحافظين على المجموعات التي تتشدد باتباع النسخة الأصلية من الأساليب والطُرق الثقافية والسياسية والدينية التي قامت عليها دولهم أو حكوماتهم أو مجتمعاتهم. ودور المحافظين عادة هو إعاقة أي تغيير أو تطوير أو تصحيح من شأنه أن يخالف الوضع الذي كان عليه آباؤهم وأجدادهم بغضّ النظر عن ملاءمته للحاضر أو عدمه.
ومن الأمثلة الشهيرة الساموراي اليابانيون، وممانعتهم لانفتاح اليابان. وكذلك المحافظون اليابانيون المتأخرون، الذين غلبوا على القرار ورفضوا صوت التعقل والحكمة فهاجموا سواحل أمريكا، فكان دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية.
وقد ضعفت شوكة المحافظين في جميع أنحاء العالم المتطور بعد الحرب العالمية الثانية، كنتيجة لما أثبته المحافظون في كثير من هذه الدول بأنهم قد يوحدون البلاد وقد ينجحون في جمع الكلمة - كما في ألمانيا وإيطاليا واليابان وغيرها - ولكنهم ينتهون بالبلاد إلى الدمار والخراب في فترات قصيرة نسبية في عمر الشعوب.
ومعضلة الأيدولوجية المُحافظية أنها ضعيفة أمام الانكشاف على العالم الخارجي. فهي لا تعمل ولا تنجح إلا في المجتمع المغلق، وكوريا الشمالية من الأمثلة الواضحة اليوم. فالفرد المحافظ المتشدد لا يستطيع أن يرى أبعد من محيطه، فيعتقد أنه هو هو ولا أحد غيره، في نظرة استخفافية دونية استهتارية لثقافات الشعوب الأخرى. فما أن يصطدم بها وينكشف عليها، حتى ينهار سريعاً.
ولو تأملنا كذلك التجارب الناجحة للمحافظين المتشددين هنا وهناك قديماً وحديثاً لحركات ودول إسلامية وتحقيقها للأمن وإقامة الدين ثم السقوط السريع لها وما تبع ذلك من مآسٍ دينية ودنيوية، في اطراد زمني، كلما حَدُث العهد بالتجربة واقترب من وضعنا اليوم، قَصُر عمر الدول والتجارب الإسلامية الحاكمة أو المؤثرة على السلطة الحاكمة.
ولو تأملنا تجربة نجاح الملك عبد العزيز وما قام به من دور فعّال في توحيد هذه البلاد وجمع الناس على كلمة واحدة، لوجدنا أنّ الملك المؤسِّس - رحمه الله - كان يعزل هؤلاء المحافظين المتشددين عن المعاملات الخارجية سياسياً واقتصادياً وهذا سر نجاحه.
فلعلنا نخلص إلى نتيجة من هذه المعطيات أن المحافظين المتشددين سواء أكانوا قوميين أو إسلاميين أو عرقيين، بشهادة التجارب الإنسانية المطردة، هي دعوة قوية تجمع الناس وتوحدهم وتقيم لهم الدولة والأمان طالما أنها تعمل في مجتمع مغلق على نفسه ولم تتعرض للاحتكاك بالمجتمعات الأخرى الخارجية من دول أو ثقافات. فمتى حصل الاحتكاك أسقط المحافظون المتشددون دولهم ومجتمعاتهم، كما حصل في أوروبا وما حصل للدولة السعودية الأولى، بعد دخولهم الحجاز، وما حدث من عزل المحافظين المتشددين عن السياسات والتعاملات مع العالم الخارجي في الدولة السعودية الثالثة، وكما حدث للحركات والدول الإسلامية قديماً وحديثاً.
ولكن الأمور قد تغيرت. فما عادت الحدود الجغرافية تُشكل عزلاً للمجتمعات يمكن أن يعمل فيها المحافظون المتشددون اليوم دون أضرار عظيمة يلحقونها بالعباد والبلاد. فقد انفتح العالم بعضه على بعض غصباً، وأصبح من المستحال عزل أي مجتمع عن العالم الخارجي.