أحمد فلمبان
إن الإنتاج الفني التشكيلي (أي كان) هو غاية الفن للتعبير عن سمو شخصية ونبل أفكار صانعه الفنان، وليس كونه ينسخ صورًا للواقع المرئي، وإنما في مقدرته على جعل ما هو خلف المرئي قابلاً للرؤية، وتخضع هذه التشكيلة للظروف المحيطة بالفنان (الثقافية والاقتصادية والسياسية والنفسية والاجتماعية) وينعكس هذا على الإنتاج طابعه ألتأثيري وجانبه الحضوري وسَطْوَته لدى بصيرة المتلقي وفاعِليّته في دواخله وأحاسيسه قبل بصره، لأن نوعية الإنتاج ومدى الأصالة التي تطبع العمل الفني هي التي تصنع الحوار الصامت وتثير العلاقة الحميمية بين الفنان والجمهور معًا، فيؤثر أحدهما على الآخر، حتى يأخذ الفن شكلاً متميزًا أو أشكالاً أصيلة معبرة عن حاجة ذلك الجمهور، مع الأخذ في الاعتبار الصدق وجدية الطرح وخصوصيته ومبادئه الفنية ورسالته التي يسعى الفنان إلى تحقيقها، لأن الفن التشكيلي متشابكًا ومتداخلاً في مفرداته ومعانيه وله طرقه عديدة للتعبير للوصول إلى نتائج مختلفة ورؤى مقنعة، ولا يسعى إلى حقيقة موضوعية وحسابات اقتصادية ومعايير جبرية هندسية كما في العلوم الأخرى، كما قال دافنشي (ليس من الممكن تدريس «علم الرسم» إلى من لم يهبه الخالق ولم تؤهله الطبيعة لاستيعابه، على العكس من علم «الرياضيات» حيث يتساوى ما استوعبه التلميذ مع ما قرأه المعلم) لأن الفن لا يحاول الوصول إلى طرق تطبيقية وعملية التدوير والتكرار، وعندما نتحدث عن المتلقي، نعني ذلك الإنسان الواعي الذي ينتمي لبني البشر الذي يعرف الفن ويعيه ويقدره ويبحث عن مواطن الجمال والكمال، وليس ذلك الذي يبحث عن الزينة والاستثمار، وفي الوقت نفسه نوعية الفنان (ذاك الفنان) الراقي الذي يبحث عن الأصالة والمنتج الجاد من أجل تحقيق رسالة فنية سامية، لا الانقياد للمؤثرات وتلبية طلبات المتسلطين والأوصياء وتنفيذ المقاولات، لأن الفن الراقي نتاج إبداعي إنساني ومفهوم فكري وموروث ثقافي من الإنسان وللإنسان ومحصلة للظروف ألاجتماعية، وهو القاسم المشترك الأعظم الذي يعبر عن حياة الأمم والشعوب ويرمز للبيئة والمجتمع ويسهم في ترجمة المشاعر الإنسانية وأهميته في طرح معاناتها وقضاياها، وله دوره المؤثر في مستقبل الأمم وتطورها ومرآة حضارتها وسجل تاريخها وتطورها ووعيها، ومن العوامل المساعدة على إعطاء الإنسان قيمته وتقويم سلوكه وتحسين أخلاقه وترويض طباعه والارتقاء بذائقته إلى أعلى مراتب التعبير الجماليوليس أبلغ من هذه المقولة: (إذا أردت أن تعرف أمة، فإن عليك أن تطالع آثارها ومتاحفها وفنونها التشكيلية على وجه الخصوص).