أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: هذا الواقِعُ الأليمُ ظاهِرةٌ لم تُوجَدْ قطُّ في التاريخ البشري حَسَبَ استقرائي، وحسَب ما وعيتُه من استقراءِ غيري؛ بل كان العربيُّ في جاهليَّتِه أَعَزُّ في أرْضِه، وإن كان طعامُه من الجرادِ والضِّبابِ والأعشابِ، وإن كان يُؤْثِرُ فرسَه على أطفالِه بحليبِ ناقَتِه.. وهذا الواقِعُ الأليمُ أيضاً مسبوقٌ بوعيدٍ وتحذيرٍ من الله على لسانِ عبده ورسولِه محمد صلى الله عليه وسلم بقولِه: ((ويلٌ للعربِ مِن شرٍّ قد اقْتَرَبَ))، وبتحذيره بقوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (25) سورة الأنفال، وقوله سبحانه {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} (113) سورة هود.. ومِن قبلُ استعاذ موسى عليه السلامُ بربِّه؛ فقد أخبر الله عنه أنه قال: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} (155) سورة الأعراف.
قال أبو عبدالرحمن: جاءت علامَةُ (صِلَى) التي تعني رجحانَ الوصْلِ على القطعِ بعد (وَإِيَّايَ)؛ وهذا وَهْمٌ شنيعٌ؛ لأنه يعني أنَّ موسى عليه السلامُ تمنَّى من ربِّه أنْ يكونَ قد أهلكَه مع مَنْ هلك؛ وهذا باطل، وحاشا لموسى الكليم عليه السلام أنْ يَتَمَنَّى مِن رَبِّه أنْ يهلك مع مَنْ هلك؛ فصحَّ بهذا بما لا مجالَ فيه للجدلِ والتمعلُمِ والتقليد: أنَّ الصوابَ علامَةُ (مُـ) التي تعني الوقف اللازم بعد {مِّن قَبْلُ} ولا مَكان لعلامَةِ (صِلَى) التي تعني رجحان الوصل؛ والمعنى حينئذٍ؛ وهو المعنى الذي لا احتمال غيرُه: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ}؛ أيْ مِن غير أنْ أكونَ هالكاً معهم؛ ثم استأنف بقوله كما في الآية الكريمة: {وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا}؛ فموسى الكليم عليه السلام يبرأ إلى ربه أنْ يكون مِن السفهاءِ، ويُشْفِقُ أنْ يَهْلِكَ معهم، ويتضرَّعُ إلى ربِّه أنْ يرحمَه هو ومَن آمَن معه.
قال أبو عبدالرحمن: الآياتُ الكريماتُ المذكورةُ آنفاً مع حديثٍ ((ويلٌ للعرب)): وعيدٌ وتحذير مِن فتنةٍ ماحِقةٍ تنالُ المسلمين، ثم يبعثُ الله مَن هلك على نيَّتِه؛ فإنْ كانت نِيَّتُّه على الإيمان نجا، وكان من أهلِ الجنةِ، ومن كان على الكفر فحيثُ ما أوْبَق نفسَه.. إلَّا أنَّ نصوصَ الوحْيِ الْـمُطَهَّرِ تواترتْ على أنَّ الْعُقْبَى للمسلمين في بلدانٍ مُعَيَّنَةٍ، وأنَّ ما أصابهم تكفيرٌ وتمحيصٌ للمؤمنين، وعقوبةٌ للكافرين؛ وتلك البلدانُ هي الشامُ بعمومها؛ ومنها سوريا الموصوفةُ بالإقليم الشماليِّ، وأنَّ الإيمان يأْرِزُ إليها كما يأْرِزُ إلى مكة والمدينةِ شرَّفَهما الله، وأنهم يتزاورون.. ومنها مِصْرُ مَعْقِلُ المسلمين وثِقَلُهم؛ وكل هذه البلدان بُليتْ وامتُحنَتْ بإقْصاء شرعِ الله أنْ يحكمَ في عباد الله، واستُعيض عن ذلك بالإفرازِ الصهيونيِّ للديمقراطية التي تعني العبوديةَ لكلِّ شيءٍ من الشهوات والشبهات إلَّا من العبودية لله وحده خالِـقِ كل شيءٍ سواه سبحانه وتعالى؛ ولهذا الإفْرازِ بيانٌ جَلِيٌّ من كلام ربنا سبحانه وتعالى في سورة الإسراء، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى ولو بعد قليل من الحلقات حديثٌ مفصل عن ذلك؛ ومَنْ أصدقُ من الله حديثاً؟!.. بُلِيت سوريا بالماركسية، والبعثية المجرمة، ورعونة الإخوان أيام الوحدة بين مصر وسوريا؛ وكان الْمُتَنَفِّذُ في سوريا عبدالحكيم عامر، والنصيريةُ الأعظمُ إجراماً ابتداءً من آل الجحش وانتهاءً بهم إن شاء الله تعالى .. وأكتفي الآن باستعراض شيءٍ في التحليل الأعمى لمشاعِرِ الهمِّ الإسلامي جاءَ بقلم (حبيب حداد) وزير الإعلام البعثي.. وهو مُخْلِصٌ في الدَّعْوَةِ إلى القوميَّةِ العربية، وتَـمَـتُّعِها بِنُمِوِّها وُحُرِيَتها، صادقُ النية في اجتهاده؛ غافِلٌ عن الشَّرطِ الإسلاميِّ لوجودنا العربي ..قال: ((لقد ظل دعاة الأصالة من السلفيين يركزون كل همهم على السعي إلى تحقيق المثل الأعلى الذي يرومونه؛ لكنَّ هذا المثل الأعلى غير موجود الآن في الواقع، ولا يتمثل بأيَّ من الأنظمة التي تُسمِّي نفسها إسلامية؛ كما أنه من جهة أخرى غير قابل للتحقيق.. وإذا كان ما هو مطلوب فهم مسألة الأصالة فهماً عصرياً مستوعباً ومتجاوزاً للإشكاليات التي واجهت الفكر السياسي العربي على امتداد القرن الماضي: فلابد من وجهة نظرنا أن تستبدلُ بمفهوم آخر هو مفهومُ الخصوصيةِ التي تُشكِّل الثقافة عماد لمتها الحيِّة المتجددة على الدوام بالنسبة إلى أي شعب وأمة.. هكذا تكون قراءتُنا للتاريخ قراءة موضوعية سليمة)).
قال أبو عبدالرحمن: إذا كان المرادُ الوجودَ العربيَّ المعتَدَّ به أيامَ مجدِ العربِ الإسلامي منذ إكمال الدين قُبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بداية العهدِ الأُمَوِيِّ: فإنَّ القراءةَ تكونُ من ذلك التاريخ نفسِه، ومِن هدايةِ النصوص الشرعيةِ نفسها.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.