د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن أشرنا في إحدى المقالات السابقة أن المهم من العملية السياسية الطويلة والفريدة من نوعها في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، أن اليمين المتطرف لم يصل، والمهم أيضا أن الموجة اليمينية المتطرفة والقومية التي بدأت تجتاح بعض الدول الديمقراطية التقليدية، لم تصب فرنسا، لأنها لو أصابت فرنسا، لتغيرت أوروبا عن بكرة أبيها، ولتوقف الاتحاد الأوروبي، ولشهدنا صراعات داخلية لا يمكن أن تخمد، ولأثرت على اقتصاديات العديد من الدول الأوروبية والدول المتوسطية والعربية على السواء، ولأصابت العدوى جل الدول المجاورة التي ستدخل في سياسات حمائية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا... كما أن الملايين من المهاجرين العرب والأفارقة الذين يعدون بالنسبة للعديد من دولهم الأصليين المورد المالي الأول لها، سيجدون أنفسهم بين سندان السياسات الأمنية الجديدة، ومطرقة الكراهية الرسمية للدولة لهم.
وعندما تم الإعلان عن النتائج الرئاسية، كان البعض ينتظر تكذيبا وتحذيرا من السيدة لوبين، زعيمة اليمين المتطرف، ولكنها أخذت الكلام مباشرة بعد الإعلان لتعترف بهزيمتها وتشكر 11 مليون فرنسي الذين صوتوا لها، وتهنئ الرئيس ماكرون على انتخابه، ولتدعو إلى مراجعة للذات لاستمالة الفرنسيين الذين لم يصوتوا لها... فرغم إيديولوجيتها المتطرفة، اعترفت بالهزيمة واستسلمت لقواعد اللعبة السياسية... تصور لو كان الأمر يتعلق بدولة إفريقية وعربية؟ لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاتهمت شياطين الجن وعالم الإنس بالتدخل والتزوير.
وهاته الواقعية السياسية التمستها خلال قرار الرئيس الفرنسي ماكرون زيارة اليونان التي مرت بموجات من الركود الاقتصادي المر، ولو كان قد وصل إلى عرش الإليزي واحد من "اللاوحدويين" كالسيدة لوبين مثلا لتوقفت عجلة الاتحاد الأوروبي ولأخرجت دول من خريطة الدول المستقرة كاليونان ولدخلت في عالم من الفوضى والمجهول.
الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون يعد من الجيل الثاني من جيل "الوحدويين" الأوروبيين، وهو خريج المدرسة الإدارية والسياسية الفرنسية الجديدة ويحمل لواء التغيير الأوروبي الجذري ويملك اليوم مؤسسات وهبة الدولة للقيام بذلك.
وها هو رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس يقول خلال زيارة الرئيس ماكرون إن بلاده تحولت من وضعية الخروج من منطقة اليورو إلى استقطاب الاستثمارات وهي الأعلى على مدى السنوات العشر الأخيرة... ويضيف قائلا "قال لي رجل اعمال فرنسي إننا تمكنا من تحويل "غريكست" (خروج اليونان من منطقة اليورو) الى "غرينفست" (الاستثمار في اليونان) ليس بالنسبة للفرنسيين فقط بل لباقي دول أوروبا".
صحيح أن غالبية اليونانيين لم تلمس بعد مؤشرات النمو الاقتصادي. ولكن بعد سنتين من وضع حكومة تسيبراس البلاد على شفير الخروج من منطقة اليورو، وثماني سنوات من انزلاق اليونان في أزمة اقتصادية خانقة، بدأت أرقام التوظيف بالتحسن. فالحكومة الحالية خلقت حوالي 500 ألف وظيفة منذ تسلمه الحكم في 2015، وهو رقم قياسي للسنوات الـ16 الأخيرة.
وحصلت اليونان على خطتي إنقاذ بمليارات اليورو منذ 2010 إلا أنها غالباً ما تشتكي من مطالب صندوق النقد الدولي بإجراء تقشف وإصلاح قانون العمل.
هذا من جانب، ولكن المسألة الأهم هو الوقوف الدائم لإحدى الدولتين الحارستين للاتحاد الأوروبي وأعني بذلك ألمانيا فرنسا، إلى جانب اليونان، ولأول مرة في نظري يقوم رئيس دولة بدعوة علنية إلى المؤسسات المالية لتفهم أوضاع دول مثل اليونان، حيث دعا الرئيس ماكرون من اليونان صندوق النقد الدولي إلى الامتناع في المحادثات المقبلة عن المطالبة بإجراء تقشف يفوق ما تم الاتفاق عليه ودعاها بالتحلي بحسن النية وعدم زيادة المطالب.
الرئيس ماكرون يفهم جلياً أن خسارة الاتحاد الأوروبي ستكون شكلاً من أشكال الانتحار السياسي والتاريخي، واتحاد أوروبي قوي فقط يمكنه حماية كل مواطنيه من التهديدات العابرة للحدود مثل التغير المناخي والإرهاب والأزمات المالية والاقتصادية في عالم لا يرحم وفي عالم لا يمكن لدوله البقاء إلا في ظل التكتلات الوحدوية الإقليمية والقائمة على دول محورية.والواقعية في الأخير هي البارومتر الذي يمكنك أن تقيس به نجاعة سياسة دولة من عدمه، وعالمنا اليوم لا يحتاج إلى شعبوية السياسيين أو إلى نفاقهم وإنما إلى تفهمهم للأمور بطريقة دقيقة جدا وهي التي عليها مصالح الخاص والعام في الداخل والخارج؛ والشعبوية قضت على مستقبل دول عديدة، كما هو حال فنزويلا، ولها منافع مؤقتة ومعدة لنخبة محدودة فقط، وهنا الكارثة.