د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
يرى مصرف جولدمان ساكس ومعه كثير من المصرفيين أن قانون دود- فرانك الذي تم صياغته بعد الأزمة المالية عام 2008، هو سبب في انخفاض عائدات المصرف في الأسهم العامة من أكثر من 32 في المائة في عامي 2006 و 2007 إلى 9 في المائة في عام 2016 الذي لا يزال أعلى من المتوسط في المصارف الأميركية، وعائدات الأسهم العامة هي المقياس الذي يرتبط به الأجر المدفوع لكبار المسؤولين التنفيذيين.
خلال لقاء جانيت يلين رئيسة البنك الاحتياطي الفيدرالي برئيس البنك المركزي الأوربي ماريو دراغي مع عدد من قادة ومسؤولي البنوك المركزية حول العالم في منتدى جاكسون هول بولاية وايومنغ الأميركية في 26/8/2017، ركزت كلمة دراغي على إن التجارة والتعاون الدوليين يواجهان مخاطر بما يهدد الإنتاجية، بل ونمو الاقتصادات المتقدمة وهو يرى أن سياسة التيسير النقدي لا تعني تخفيف القواعد المالية أي أن دراغي ويلين تخليا عن إراحة الأسواق.
ويعتبر دراغي أن الجميع تحمل تكاليف باهظة والوقت غير مناسب على الإطلاق الذي يطالب به المصرفيون بتخفيف قيود لوائح القواعد المالية، وقد يؤدي إلى تأجيج الاختلالات المالية من جديد.
وأكدت يلين في كلمتها بأن الإصلاحات التي سنت بعد أزمة 2007-2009 جعلت النظام المالي أقوى دون عرقلة النمو الاقتصادي، وإن أي تغييرات في المستقبل ينبغي أن تظل متواضعة، ما يعني أنها على غرار دراغي يدافعان عن القواعد التي وضعت بعد الأزمة المالية عام 2008 وعززت من المتانة المالية تعزيزا كبيرا من دون أن تحد على نحو غير ملائم في إتاحة الائتمان أو النمو الاقتصادي، وإن كانت أشارت بأنه قد تكون هناك حاجة إلى تغييرات في بعض اللوائح المنفردة إلى احتمال تخفيف قاعدة فولكر التي تحد من تداول البنوك للأسهم إضافة إلى تخفيف القواعد المطبقة على البنوك الصغيرة والمتوسطة، وفي نفس الوقت أقرت يلين الحاجة إلى خطوات لتحسين السيولة في بعض أجزاء السندات، لكن ما يزال النظام قويا، أي أن أي تغييرات ستكون متواضعة.
الأسواق الدولية انتظرت من اجتماع جاكسون هول تعزيز اقتصاد عالمي ديناميكي، لكن ما يجري في الاجتماع نقاشات تقنية لا تعني كثيرا الأسواق، ففي عام 2010 أعلن رئيس الاحتياطي الفيدرالي بيرنانكي انطلاق جولة جديدة من برنامج شراء الفيدرالي أصولا مالية، أو ما عرف ببرنامج التيسير الكمي لتحفيز الاقتصاد على النمو، وفي اجتماع 2014 أعلن محافظ المركزي الأوربي ماريو دراغي برنامجا مماثلا إلى حد ما، لكن الأسواق تنتظر في 2017 رسالة سياسات نقدية جديدة بتأثير اقتصادي ومالي على مستوى العالم.
تركز الأسواق على كلمات جانيت يلين وماريو دراغي لمعرفة استراتيجيات المؤسستين النقديتين الأميركية والأوربية بشأن كيفية تخفيف السياسات التي وصفت بالتيسيرية الانفلاشية خلال الأزمة، فالاحتياطي الفيدرالي بدأ منذ عام 2008 في خفض الفوائد، ثم إطلاق برامج التيسير الكمي لشراء الأصول المالية والديون، ولا سيما الدين الحكومي، ولحقه في ذلك بنك إنجلترا واليابان ثم البنك المركزي الأوربي الذي زاد على ذلك فرض رسوم على الودائع البنكية غير المستخدمة لدفع المصارف إلى إقراضها وهو إجراء اتخذه الدين الإسلامي عند تعطيل توظيف رؤوس الأموال ونهى عن كنزها ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)، وإن كانت السياسة النقدية في الإسلام لا ترتبط برفع وخفض الفوائد، بل يعتمد نظامه على المشاركة بين رأس المال العامل وبين أصحاب العمل، ويتم تقاسم الأرباح والخسائر حتى يحرص الطرفان على تقليل المخاطر في حدها الأدنى، لكن ما يدور في البلاد الإسلامية ما تسمى بالصيرفة الإسلامية أو المرابحة فهي تدور في فلك الفائدة، لذلك لم تتمكن من تحقيق نموذج المشاركة على أرض الواقع حتى تتمكن الدول الأخرى من استنساخه قد يكون بديلا أفضل.
الأهداف التي كانت وراء تلك الإجراءات هي من أجل تحريك عجلة الأسعار والائتمان، وبالتالي زيادة حركة النشاط الاقتصادي نحو تحقيق النمو، لذلك بدأ الفيدرالي الأمريكي في ديسمبر 2015 برفع الفائدة بعدما انطلق النشاط الاقتصادي بصلابة وتابع برفع الفائدة في 2016 و 2017، لكنه متريث الآن لأن الأمور تعقدت قليلا، علما بأن البطالة عند أدنى مستوى وتبلغ 4.3 في المائة، والنمو مستمر.
هناك اعتقاد للوهلة الأولى بأن الاقتصاد الأمريكي خرج من الأزمة وودع الركود وأن عليه أن يتخلص بشكل تدريجي من الحجم الهائل للأصول المالية المتراكمة في ميزانيته والبالغة قيمتها 4.5 تريليون دولار، لكن هناك تعقيدات تؤخر إجراء التعديل الضريبي على النحو الذي وعد به الرئيس ترامب، كما تحول دون إطلاق برنامج الاستثمار في البنى التحتية بالأرقام السخية التي أعلنها.
في الضفة الأخرى من الأطلسي يتمتع الاقتصاد الأوربي ببطالة منخفضة وحركة رساميل استثمارية مرتفعة وصادرات صاعدة ونمو متوقع عند 1.9 في المائة بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، وأعلن البنك المركزي بتخفيض حجم شراء الديون اعتبارا من عام 2018 التي هي حاليا عند 60 مليار يورو شهريا، لكن دراغي مشغول الآن بارتفاع اليورو مقابل الدولار لأنه سيؤثر في الصادرات والنمو.
تعاني البنوك المركزية لغز التضخم المكبوح والذي يحير الاقتصاديين حول العالم، لأن البنوك المركزية تربط رفع الفوائد عندما يرتفع التضخم فوق 2 في المائة، لكن نسب التضخم في الوقت الحاضر دون 2 في المائة.
السؤال الذي يحير الاقتصاديين: لماذا لا ترتفع نسبة التضخم في موازاة ارتفاع النمو؟ رغم الإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية، ففي الولايات المتحدة يبقى التضخم مستقرا عند 1.4 في المائة في يونيو 2017، وعند 1.3 في المائة في الاتحاد الأوربي في يوليو 2017، وهو ما يعني أن العلاقة بين البطالة والأجور والأسعار لم تعد تعمل كما كانت قبل الأزمة، وهناك تساؤل آخر: هل ضعف الرواتب والأسعار (التضخم) أمر مرحلي أم هيكلي مستدام؟ فإذا كان مستداما فإنه ليس في مصلحة البنوك المركزية التباطؤ كثيرا في إجراءات العودة إلى المسار الطبيعي والتخلي عن التركة الاستثنائية الثقيلة التي خلفتها سنوات الأزمة المالية، لكن إذا كان مرحليا فيجب التريث حتى لا تكسر إجراءات التقييد حلقة النمو الطرية غير المستدامة وغير الصلبة.
لذلك تتصف البنوك المركزية بالحذر الشديد ولن تنتقل إلى مسار تطبيع السياسات النقدية حتى يعود التضخم ومعه الأسعار والأجور إلى الصعود وبسرعة، وهي تدرك أن هذا الانتقال لن يكون نزهة بلا مطبات، وكذلك التباطؤ في السحب التدريجي للدعم الاستثنائي سيكون له كذلك آثار جانبية خصوصا في الأسواق المالية، لأن البنوك المركزية تتحمل نحو 20 في المائة من إجمالي الدين العام العالمي الذي يعادل 300 في المائة من الناتج العالمي، خصوصا وأن هناك شكوكاً حول مقدرة السياسات المالية بمفردها على حل معضلة الديون.
فقد قفزت ديون الولايات المتحدة بمفردها من 5.8 تريليون دولار في عام 2001 إلى 20 تريليون دولار عام 2016، وأصبحت خدمة الدين تصل إلى 30 مليار دولار خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2017، لأن تفاقم الديون في الاقتصادات الكبرى يستنزف جزءا متزايدا من النمو في الناتج المحلي، والاقتراض لضمان التوسع الرأسمالي مهم للاقتصاد الحديث، لذلك لا يصبح الدين مشكلة اقتصادية، لكنه يصبح كذلك عندما يخصص الدين لشراء الأسهم، مما يوجد فقاعة زائفة ويحدث كارثة عند ارتفاع معدلات الفائدة.
حتى الآن لم يعلن الفيدرالي الأميركي الذي أوقف برنامج الشراء متى سيبدأ في التخلص من الـ 4.5 تريليون دولار التي في ميزانيته، صحيح أن تلك الديون ليست تحت ضغط الأسواق إلا أنه غير مريح للأسواق نفسها لأنها تخشى الفقاعة بعدما ارتفعت الأسعار فيها بمعزل عن الأساسيات التي تبرر الصعود على أمل فقط أن ترتفع الثروات المالية والعقارية وتجر وراءها ارتفاعا في الاستهلاك والاستثمار، لكن تبين أن المعادلة لم تعمل كما خطط لها، فالإنتاجية لم ترتفع ولم تتحرك ديناميكية التضخم ولم تتطور الأجور.