سُرى العليان
استمعت قبل أيام إلى كذبة ابني الأولى - بالنسبة لي على الأقل- فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها إلى إخفاء الحقيقة عني، لم أكن مستاءة على الإطلاق فالكذب ظاهرة طبيعية منتشرة لدى الأطفال عمومًا، وعوضًا عن الجدل للكشف عن الحقيقة والانشغال بتقدير حجم الكذبة وتمييز لونها ومحاولة الربط بين تفاصيلها فقد دفعت بفضولي تجاه منطقة أخرى، تتعلق باكتشاف أسباب هذه الكذبة وحصر الدوافع التي من المرجح أن يكون ابني قد كذب لأجلها.
لا استطيع الجزم بشعوري حينها لكني بفطرتي كأم أحسست بشيء من الطمأنينة، فقد كُبر ابني وبدأ يكتشف طبيعة الحياة ويكتسب منها أدوات للنجاة (سلبية كانت أو إيجابية) تخرجه من الأزمات حسب تقديره.
موقنة بأن ليس للكذب مشروعية ومدركة تمامًا أن تلوينه مفهوم معقد لا يتناسب وطبيعة فهم الأطفال بمختلف مراحلهم العمرية، ولكن لا بأس أن يكذب الأطفال أحيانًا، فبحسب ما أشارت إليه نتائج الدراسات فإن 69 في المائة من الأبناء كذبوا على آبائهم مرة على أقل تقدير وربما مرتين أو أكثر.
يعزو اختصاصي علم النفس والأعصاب السويسري فوريل 71 في المائة من دوافع الكذب إلى الخوف، وكنتيجة حتمية للغريزة الوقائية والدفاعية التي عادة ما يخفي من خلالها الطفل الحقيقة تجنبًا للعقاب فقد بدا لي ابني خائفًا بالفعل؛ فأحجمت فورًا عن لومه، وبطبيعة الحال لم يكن توجيه الاتهامات وإطلاق النعوت أمرًا واردًا وصحيحًا، واكتفيت بابتسامة ودودة غيرت بها مجرى الحديث جاعلة لكبرياء ابني مخرجًا.
وبغض النظر عن لون الكذبة وما سيئول إليه حجمها وكل ما أحمله في رأسي من أفكار تربوية وتوجهات أخلاقية تشجب الكذب، وتجفل من الكاذبين، فإني ولسبب ما أدركت أن تلك الكذبة لم تكن سوى مؤشر سلوكي ينبهني إلى انتقال ابني لمرحلة عمرية جديدة، ولفتة صبيانية يخبرني من خلالها بقدرته على تحمل المسؤولية رغبة في الحصول على المزيد من الاستقلالية، الأمر الذي يقتضي مني ووالده منحه عددًا من الامتيازات ومراجعة سياسة العقوبات إضافة لتوسيع مساحة الحدود الضابطة والعمل على تحديث الأساليب التربوية بما يتواءم مع طبيعة مرحلته العمرية الجديدة.
إن للطريقة التي ندرك بها الموقف تأثيرًا كبيرًا على مشاعرنا وردود أفعالنا، وبالتالي فالألم يحدث غالبًا من أفكارنا وليس من الموقف نفسه، ولنفرض مثلاً أني فكرت بتبعات تلك الكذبة وتصورت ابني وهو يكتسب تلك العادة السيئة وافترضت أنها حتمًا ستستمر معه طوال حياته، واعتقدت أن ما حدث كان سلوكًا متمردًا ثم ضخمت كل تلك الأفكار في رأسي وسمحت لليأس أن يحتل تفكيري، بلا شك كنت ساستجيب للغضب حينها علاوة على شعوري بالإحباط، وكان ذلك الدور التربوي التقليدي سيصرخ بي ليرغمني على معالجة الموقف بمثالية منفرة اكشف من خلالها الخطأ لابني ثم أصب عليه وابل انتقاداتي وأمطره بسيل مواعظي، على أن أخذ منه إقرارًا بالتوبة قبل إغراقه بمشاعر الذنب لضمان راحتي وسلامته.
يعتقد معظم الآباء أن النصيحة مطلب تربوي وخيار مثالي لازم باختلاف المواقف الحياتية التي يصادفونها مع أبنائهم لا سيما المراهقين منهم، لكنها ليست كذلك، أن التربية عملية ديناميكية متكاملة، ونحن وإن تجاوزنا الحالة المزاجية للأبناء ونجحنا في اختيار التوقيت المناسب لوعظهم، علينا ألا نغفل أبدًا عن دقة ملاحظتهم ومدى إدراكهم فيما يتعلق بأفكارنا وردود أفعالنا في حضورهم.
قرأت بعناية ما أوصت به سوزان ستيفلمان مربية الأطفال الأمريكية والمدربة الوالدية حين نصحت الآباء قائلة: «تعرّف على الأفكار التي تسبب لك الألم، وأفهم أنك لست مجبرًا على الأخذ بها».
إن كل موقف وكل طفل يعد حالة خاصة، وكل سلوك مزعج يقوم به الأبناء هو في الغالب إشارة منهم لإخبارنا بوجود حاجة لم تُشبع بعد، من هنا فقط استطعت تجاوز ذلك الدور التقليدي، وأصبحت أرى الحياة والتربية من منظور أوسع، لم تعد الصورة التقليدية المثالية تعنيني، وبدأت استمتع بالحياة مع أطفالي وأتعامل مع المواقف التي نمر بها تمامًا كما هي بحجمها الحقيقي دون تجاهل أو تضخيم، أصبحت أشد وعيًا بحاجات أبنائي وأكثر لطفًا في توجيههم وأقدر على تجاوز هفواتهم، أدركت أن كل ما أقاومه سيستمر فوجهت جهودي نحو الأسباب الكامنة وراء سوء سلوكهم، فأصبحت أكثر قدرة على قبول التغيرات التي يمرون بها عوضًا عن التصادم معها، لم يعد لدي غضب أحاول السيطرة عليه، ولا خيبات يُفترض بي تجاوزها، ورأيت أن الحقيقة كما يقول بايرونكاتي «ألطف دائمًا من الحكاية التي نقصها لأنفسنا عنها».
وأخيرًا لنجرب أن نضع وعينا بأفكارنا حول حقيقة ما يحتاج إليه أبناؤنا، ونركز عنايتنا بجميع النماذج التي من الممكن أن يحاكوها بما في ذلك نحن، ولطالما كانت الأسوة الحسنة في التربية أقوى وأبقى أثرًا من الوعظ، فالأولاد كما يقول جيمس بالدوين «لم يكونوا جيدين قط في الاستماع إلى من يكبرهم سنًا، لكنهم لم يفشلوا أبدًا في تقليدهم».