نجيب الخنيزي
تاريخ البشرية حافل بالصراعات والحروب الدامية التي تتمظهر بأشكال ومبررات عرقية أو دينية أو مذهبية، غير أنّ جوهرها يكمن في الاستحواذ على مكامن السلطة والقوة والثروة.
تعد اتفاقية وستفاليا 1648م التي تشكلت الدول الأوربية على أساسها أول محاولة لتجاوز الحروب والصراعات الدينية (بين الكاثوليك والبروتستانت) والتي استمرت عشرات العقود، وبالتالي بناء دول وكيانات (وطنية) وفقاً لمحددات الأرض والعرق واللغة ، وبذلك تشكلت ما يعرف بالدولة - الأمة حيث المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات للجميع.
مع أهمية تلك الخطوة التاريخية، غير أن سيرورة بناء وتشكل الدولة المدنية الحديثة بمعناها المعاصر لم يتحقق حتى تفجر الثورات البرجوازية ضد الإقطاع والحكم المطلق وهيمنة الكنيسة ، ونشير هنا إلى الثورة الإنكليزية (1648) والثورة الفرنسية (1789) والأمريكية (1776)، وما تلاها من ثورات وصراعات طبقية وسياسية في أوربا.
غير أن نشوء وتطور الدولة الحديثة في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية لم ينه مطلقاً المشكلات والصراعات العرقية والإثنية، حيث استمرت الحروب الاستعمارية وسياسة النهب الأوربية في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وحتى الأمس القريب استمرت قوانين الفصل العنصري ضد السود في الولايات المتحدة حتى فترة الستينات من القرن العشرين الماضي.
إلى جانب صعود الحركات القومية الشعبوية التي شهدتها أوربا منذ بداية الثلاثينات من القرن العشرين مثل النازية الألمانية، الفاشية الإيطالية، إسبانيا الفرانكوية، ونضيف إليها العسكراتية اليابانية، والتي ذاقت البشرية على أياديها ويلات الحروب الإمبريالية العالمية الدامية التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من القتلى في شتى بقاع العالم.
وما أشبه الليلة بالبارحة، حيث نجد في وقتنا الحاضر، القارة العجوز (أوربا) والولايات المتحدة، وعديد من دول العالم صعوداً متنامياً للحركات والجماعات العنصرية القومية والدينية المتطرفة.
تشكل ما يسمّى بـ»الدولة الحديثة» في البلدان المستقلة والمتحررة من الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأمريكيا اللاتينية ، والتي سادتها بدرجات متفاوتة أنظمة حكم ديكتاتورية و استبدادية تفتقد للشرعية الدستورية القائمة على المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات ، وهو ما أعاق تشكل وتبلور المجتمع المدني ومؤسساته العابرة للهويات الفرعية، إلى جانب الفشل الذريع في التنمية المتوازنة بجوانبها الاقتصادية السياسية والاجتماعية والثقافية ، الأمر الذي أدى إلى صعود وتضخم الهويات الخاصة بتجلياتها العرقية والقبلية والمذهبية.
من هنا لا نستطيع عزل ما تتعرض له أقلية الروهينجا المسلمة في غرب ميانمار (بورما سابقاً) من تطهير عرقي وديني على يد قوات الجيش والأمن والمليشيات البوذية، عن طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة التي تتسم بالهشاشة والتخلف، والفشل الذريع في إعادة ترميم بناء الدولة والمجتمع وإزالة آثار عقود من حكم الجنرالات.
استمرار مأساة أقلية الروهينجا الذين يتعرضون إلى القتل والتهجير القسري (400000 مهجر) وسط تجاهل الجميع، هو وصمة عار في جبين المجتمع الدولي والمنظمات العالمية وخصوصاً الأمم المتحدة.
في خطوة خجولة أدان مجلس الأمن في قرار غير ملزم ما يتعرض له أقلية الروهينجا، لكن ما يبعث على الدهشة بل الصدمة يتمثل في الموقف المتواطئ لزعيمة ميانمار سان سو تشي، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، والتي عاشت رهن الإقامة الجبرية على مدى 15 عاماً لأنشطتها الداعمة للديمقراطية والحرية، فصمتها إزاء ما يحدث في بلادها من انتهاكات صارخة لأبسط حقوق الإنسان ، وتحميلها المسؤولية لأقلية الروهيجنا تحت عنوان مكافحة الإرهاب، ومجاراتها للمشاعر القومية الشوفينية للجماعات البوذية المتطرفة، يعكس إلى حد كبير تقديم مصالحها النفعية الخاصة، ويشكك في صدقية الشعارات والمبادئ والقيم التي رفعتها سابقاً.