د. حمزة السالم
عادة ما أتأمل في نجاح الأمم وفشلها. حتى في نظام تعليمها. واليابان أمة، قد كانت متخلفة عمن حولها. حتى أنظمتهم الحكومية وكل ما يتعلق من حضارة أخذوها من الصين. كانت أمة شرسة تتقاتل فيما بينها بلا رحمة وتقتل نفسها، فخراً. كانوا قوماً لا يعتبرون الإنسانية لمخلوق إلا للياباني، وغيرهم من البشر، هو أدنى عندهم مكانة من الحيوان.
كانوا يرسلون الرسول إلى كوريا، فيجلب لهم أجمل بناتها، ليلهوا بهن. كانوا يغزون جيرانهم فينهبوا خيراتهم، ويقتلوهم بلا سبب. قد خَضعوا الصين عبر التاريخ. وقبيل الحرب العالمية كانوا يحتلون أغلبها. وتقول بعض الإحصائيات أنهم قتلوا 50 مليون صيني أثناء حروبهم وتواجدهم تلك الفترات. فعجبت منهم!
فالسنن الكونية تتحتم أن الأمة العدائية لمن حولها، لا تدوم. وكذلك هي حال الأمم المتخلفة حضارياً. لكن وعلى الرغم من جهل اليابانيين قديماً، وعدائياتهم للغير، إلا أن أحداً لم يجرؤ أن تطأ قدمه بلادهم، منذ أن عرفوا أنفسهم، وذلك قبل أن يهزمهم الأمريكان في الحرب الثانية. فتحققت فيهم سُنَّة الله، بإهلاك الأمم العدائية.
وما استطعت أن أفهم سر عظمتهم، إلا عندما تصورت الأمريكي وهو يمشي على أطلالهم بينهم، وهم جوعى وجرحى، فلا يعترضه أحد.
فكيف آمن الأمريكان بينهم، فهم يمشون فرادى واليابانيون كثير مشردون. وهم - الأمريكان - من شرَّدهم، ودمَّر بلادهم - بلاد اليابان العظيمة - بقصف جوي أو بحمم النووي.
فما الذي دجن شعب الشمس الرهيب؟
دجنه سماع صوت إمبراطورهم، وهم ما قد رأوه قط، ولكن سمعوا صوته الذي يعرفون وهو يقدم الاستسلام، ويأمر بعدم العداء.
فتتبعت تاريخهم معه، فإذا اليابان على حروبها الداخلية العظمى، إلا أن أحداً لم يتجرأ قط للنظر للإمبراطور، وذلك على مدى لا النهاية لتاريخهم. فهم لا يعرفون تاريخ اليابان إلا بالإمبراطور، ولم يحدث قط نزاع عليه. رغم كثرة النزاعات والحروب فيما بينهم.
فأدركت أن قوة ولاء اليابانيين والتفافهم حول أصل اليابان ورأسها -إمبراطورها- هو الذي حرَّمها على العدو.
تماماً كما أن عدم الولاء لقيادة واحدة، كانت سبب تشرد العرب قبل الإسلام وعدم قيام دولتهم. فما عزَّ العرب إلا بعد أن صار لهم ولاء لقيادة، ولواء يلتفون تحته. وقد تأكدت من ظني بعد سماع جواب الجنرال الياباني -عند صدور الحكم عليه بالشنق يقول للمتعجبين من تضحيته فداء دون الإمبراطور المهزوم- فقال «إذا عرفت معنى الولاء عرفت اليابان».
ولننظر كيف صبر اليابانيون على الأمريكي المحتل وهو يصول ويجول في بلادهم المدمرة وفاء لإمبراطورهم، فلم يتعذروا بمخالفته الصريحة لأصول دينهم ولم يتهموه بالعمالة، ولم يسمحوا لآلامهم وثاراتهم وفقرهم وجوعهم وأحزانهم أن تتغلب على ولائهم، وهم يرون إمبراطورهم في جنته الدنيوية مُنعَّماً ومع عدوهم الأمريكي تابعاً مصاحباً. وإن الصبر على هذا لهو البلاء المبين عند الياباني آنذاك. فقد صبروا ولم يتأولوا، تماماً كما صبر المسلمون ولم يتأولوا في الحديبية، وكما صبر الأنصار على أثرة الغنائم في حُنين، يُحرَمون منها، ويُكرم بها قتلة أبنائهم وآبائهم. وكصبرهم - رضي الله عنهم - في ذهاب الخلافة والملك والإمارة منهم يوم السقيفة، وهم من حضن الدين ونصروه وأقاموا دولته. وكما صبر المسلمون لعزل الفاروق خالدا وغمده سيفاً من سيوف الله سلَّه نبيهم.
فبالولاء والطاعة وترك التأويل وضبط شهوات النفس وكتم الغيظ، فاز المسلمون من قبل كما فاز اليابانيون بالأمس.
وكما تأملنا عاقبة ولاء اليابان، فلنتأمل كم خسر المسلمون عندما تأولوا فأخلّوا بتمام الولاء بمعارضة أمير المؤمنين عثمان. فتمكَّن عدوهم من تحريك نزعات الشهوات فيهم وفتح عليهم أبواب التأويلات، فهم والأمة الإسلامية في فتن نتوارثها إلى اليوم. فهم هناك في الأندلس كما هم في دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها، يتآمر الأمير على أخيه الخليفة، في مقامرة لا تصل احتمالية كسبها قدرَ ذرة من شر خسارتها. فهو إما مغلوب خائن وخاسر لقبه وحياته، وإما هزيمة تجر معها خلافة أبناء عمومته ومُلك إخوته فلا ترى منهم إلا طريداً وقتيلاً وأسيراً. وإن نجح، فما كسب من كسب كثير. فحال الإمارة كانت له من قبل، ولم تزده خيانته ومقامرته كسباً ذا شان. فما كان خلعه للولاء إلا نزوة سفيه عرفها منه الشُذاذ والبطالجة والحُساد، فاستغلوها فاستخفوا به، فليس عند الشذاذ والحمقى والوضعاء ما يخسرونه.
وما أجمل قول المتنبي:
وكلُّ وِدادٍ لا يَدومُ على الأذَى... دَوامَ وِدادي للحُسَينِ ضَعيفُ
فإنْ يكُنِ الفِعْلُ الذي ساءَ واحِداً... فأفْعالُهُ اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ