د. عبدالحق عزوزي
نظمت رابطة العالم الإسلامي مؤتمرًا دوليًا متنوعًا في انتماءاته وكفاءاته في موضوع (التواصل الحضاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الإسلامي) في مدينة نيويورك الأمريكية خلال الفترة من 16-17 سبتمبر 2017م، بمشاركة صفوة متميزة من الأكاديميين والباحثين وقادة العمل الديني والسياسي والاجتماعي، وذوي العلم والفكر والرأي من مختلف دول العالم. وحقق المؤتمر ثقافة النحل في الإنتاج والإبداع في سبيل بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك.
وقد جاد وأجاد أمين عام رابطة العالم الإسلامي الشيخ العلامة الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، في كلمته المؤثرة والهادفة في حفل الافتتاح، عندما أبرز أن للتواصل الحضاري بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة تاريخاً ممتداً في التبادل والتعاون الإنساني والمعرفي والاقتصادي والسياسي، مشيراً إلى أن تلك العلاقة الحضارية المتميزة كشفت الخطأ الفادح لنظرية صدام الحضارات المبنية على إثارة نعرة الكراهية والعنصرية ونصب حواجز وهمية ربما كانت في بعض أطروحاتها حادة جداً حتى على القواسم المشتركة والتبادل المعرفي والإنساني، وهو مزلق يتجه نحو انحدار خطير للعقل البشري في سياق خروجه عن جادة التفكير السوي البعيد تماماً عن المفاهيم الحضارية، وذلك من واقع رفضه للآخر بدافع من التشاؤم أو الكراهية أو خلل التصور، وهذا سيقوده بدون شك لترك الأخذ بالخيارات الممكنة والمتعددة التي تجمع وتُقرِّب وتُسعد. وأوضح أن ذلك التعايش الحضاري لا يعني بالضرورة قناعة كل منا بوجهة نظر الآخر، لكن المهم هو تفهمنا لسنة الخالق في الاختلاف والتعدد والتنوع، ووجوب التعايش والتعاون على ضوء هذا التفهم.
وأثنى المشاركون في المؤتمر على خطط التعاون الحضاري بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة الأمريكية، مؤيدين إنشاء المركز العالمي لمكافحة التطرف «اعتدال» الذي دشنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - بحضور فخامة الرئيس دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من القادة العرب والمسلمين خلال القمة العربية الإسلامية الأمريكية التي استضافتها الرياض.
كما أعربوا عن تقديرهم للمركز وما يحتويه من كفاءات عالية وتقنيات متطورة سيتم توظيفها في مكافحة التطرف بأحدث الطرق والوسائل فكرياً وإعلامياً ورقمياً.
وأكد المؤتمرون أن حضارة الإسلام وتجربته التاريخية الرائدة تؤكد انفتاح المسلمين الواعي على الحضارات الأخرى، وحرصهم على التواصل مع شعوب العالم، ودعم مبادرات السلام العالمية، وتعزيزها، وأن المسلمين اليوم معنيون بالإسهام في العطاء الإنساني في المجالات الاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية والعلمية وغيرها، مما يخدم الإنسانية ويحقق سعادتها.
كما أكدوا أن الإسلام دين الرحمة بالناس جميعاً، ويتضمن مبادئ إنسانية عالمية قادرة على إسعاد الإنسان وتحقيق آماله وحلّ مشكلاته، والمسلمون اليوم مدعوون إلى إنفاذ هذه المبادئ وتحقيقها على أرض الواقع بالتواصل مع الآخرين، لتأسيس عالم تسوده العدالة والسلم والتراحم، وفتح صفحة إيجابية في العلاقة الحضارية بين الأمم والشعوب على أسس من الاحترام المتبادل، والتعاون في إعمار الأرض، وتحقيق أمن الإنسان وكرامته.
وأجمع المشاركون الذين أتوا من كل فج عميق على أن التنوع الديني والثقافي في المجتمعات البشرية يستدعي إقامة شراكة عادلة وتواصل إيجابي ضمن عقد اجتماعي يتوافق عليه الجميع، يستثمر تعدد الرؤى في إثراء الحياة المدنية والحضارية، وتحقيق تنمية شاملة. ولفتوا النظر إلى أن الحوار الهادف والجاد بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة الأمريكية ضروري لتفهم الرسالة الحقيقية للإسلام التي حاول التطرف اختطافها وتزوير معاني نصوصها، مع التصدي لدعوات الكراهية والإقصاء والاستعلاء، وتخليص العالم من العنف والتطرف المضاد، وإقامة تحالفات مخلصة تعزز الفهم الصحيح للآخر، وتستثمر الشراكة معه في خير الإنسان.
منذ سنوات نظمت في مدينة فاس الغراء منتديات دولية حول تحالف الحضارات والتنوع الثقافي، توجت بنشر تسعة مجلدات في الموضوع والعديد من السياسات العمومية الدولية المنبثقة منها، ومازلت أخرج بقناعة إلى أنه لا يتصور انطلاقاً من الرؤى المرجعية الإسلامية أن يتصارع الدين الإسلامي مع الدين النصراني أو الدين المسيحي أو أن تتصارع الثقافة الإسلامية مع الثقافة الأمريكية أو الفرنسية أو غيرها، بل يمكنها أن تتعايش على أساس التعارف والاعتراف المتبادل بالمصالح المختلفة والاهتمامات المتعددة والانفصال القيمي والمفهومي.
وقد نجح ملتقى نيويورك في التأصيل لهاته القناعة لاجتثاث المغالطات والجهل من جذوره وأصوله، ولتتكون من خلال كل التدخلات والتوصيات شجرة العدل أصلها ثابت وفرعها في السماء، يستظل العقلاء بأوراقها، وينهلون من ثمارها الشافية، للقضاء على وباء الإرهاب والغطرسة والنزعات والأهواء الطائشة والعواطف المغرضة والانطباعات الذاتية والمعلومات الشائعة أو المشهورات التي تضل وتضل.