علي الخزيم
يساورني الشك بأن بين عصافير الصباح المُشَقْشِقة بما نُحِسّه ونَصِفُه نحن البشر تغريداً طروباً؛ من ينتابها القلق المُعكِّر لصفوها ونحسب أن شكواها للسِّرب نشيداً للسعادة والمرح، قابلت ذات يوم زوجين عربيين معهما طفلتين توأمتين جميلتين اسمهما فرح ومرح، فعبَّرت لهما عن إعجابي بالاسمين! قالا ليت لهما نصيب من ذلك، وكشفا عن ورمين بجسمي الصغيرتين، وأضافا بأنهم جميعاً يسعون لجمع مصاريف العلاج، فتعلمت درساً آخر بأن ليس كل من صدح مُغنِّياً إنما هو سعيد.
ورأيت يوماً زميل دراسة بالمراحل الأولى لم أشاهده منذ سنين فبادرته بالسلام ولم يعرفني وعرَّفته بنفسي، وسألته عن (الصحة) فانحرف به الجواب دون قصد إلى ما يشعر بأنه مصدر سعادته بقوله: المهم أني لست مُطَالباً ولا بريال واحد، ومن الحوار القصير فهمت أنه قد مر بظروف علَّمته معنى أن يكون الإنسان غير مَدِين لأحدٍ بمال، رجل آخر عرفته يبحث عن المال واجتهد حتى ملك العقار والمزرعة ورصيد مالي جيد، ثم حاقت به ظروف لم يحسب حسابها، حتى بات يتمنى أن يفقد كل شيء مقابل أن ينام ليلة سعيدة هانئة دون كوابيس وأحلام، وكأنه يشارك أبي القاسم الشابي أحزانه وهو يقول: (ترجو السعادة يا قلبي ولو وُجِدَت + في الكون لم يشتعل حزنٌ ولا ألَمُ).
ولقيت أحد الأقارب ممَّن عُرف ببياض قلبه وحسن نواياه وهو يكاد يطير من السعادة، فسألته عن السر والسبب؟ فقال: تعرف أنه لا يجب الحديث عن إحسان نُقدِّمه، لكنها لحظات سعادة مُنِحْت إياها من الله سبحانه، فقد شعرت أن أحد المعارف بحاجة (للفزعة) والمساعدة في أمر هَمَّه كثيراً، فبادرت بعرض الخدمة، وما أن تم ذلك قبل قليل حتى تَمَلَّكني شعور لا أدري كيف أصفه أو أتجاوزه إلى أن لقيتني على حالي هذه! فأكدت له أن روح المبادرة بالبر والإحسان من أعظم مصادر السعادة ومناهل الفرح الإنساني الصادق، ولن تَعْدَم المثوبة بإذن الله فبشائرها سعادتك الآن.
ويقول العلماء فيما قرأت إن للسعادة جينات تعمل على غمر نفوسنا بها إذا ما تظافرت مع عوامل مساندة كالمبادرة الخيِّرة والقرارات الصائبة بحسب الظروف المعاشة للإنسان، ويرون أنه ليس من الأسرار الرئيسة للسعادة المال والصحة والمنصب والشهرة، وأن أعلى قيمة لها بالعلاقات الإنسانية الطيبة والتواصل الاجتماعي النقي، وتقول بعض دراساتهم بهذا الشأن أن التواصل الاجتماعي النزيه وحسن العطاء والتراحم يجعل الدماغ يفرز هرمون السعادة المُكَوَّن من عدة مواد كيميائية هي (الأوكسيتوسين) أو هرمون الحب، و(أندروفين) وهو هرمون مسكِّن للآلام ومكافح للقلق والتوتر، و(السيروتينين) المنظم لمزاج الإنسان، ومما يقال: أن عُمْر الإنسان إنما يقاس بمقدار السعادة الحقيقية بالحياة وليس بعدد السنين، وأن من يُتقن فن العيش مع نفسه لن يعرف البؤس لا سيما إذا وُفِّق للطيبة والبساطة، فبادروا في سبيل السعادة واصنعوها لأنفسكم فليست الرفاهية منبعها الوحيد: (واجعل لياليك أحلاماً مُغرِّدةً.. إنَّ الحياةَ وما تدوي به حُلُمُ).