تعد ملحمة فتح واسترداد الرياض البطولية على يد الملك المؤسس جلالة الملك عبد العزيز، وما اعقبها من استتباب للأمن والطمأنينة للمواطنين، وما اضفاه هذا الفتح من السكينة على حياة الناس والتفاتهم لأعمالهم وحرفهم وارزاقهم، كان بحق من أهم اللبنات الأولى لتأسيس وبناء الدولة السعودية الحديثة الناهضة، التي تحكم بشرع الله وسنة نبيه، كما يُعد هذا الحدث الهام من أسس وصول البلاد السعودية إلى هذا المجد والعز والتمكين، وما تنعم به من استقرار هو ضروري لشمول التنمية والازدهار والرخاء، ولم يكن جهاد الملك عبد العزيز طيب الله ثراه على مدى أكثر من 32 عاماً إلا عملاً وطنياً مخلصاً في سبيل توحيد البلاد في ظل راية التوحيد، لخير البلاد والعباد وهو ما وفقه الله سبحانه لتحقيقه ابتداء من انتصاره بفتح الرياض 5-10-1319هـ الموافق 15-1-1902م.
الليلة الاستثنائية الحاسمة
ليلة الخامس من شوال عام 1319هـ كانت ليلة غير معتادة في حياة الأمير الشاب الطموح لاستعادة ملك آبائه وأجداده (الملك عبدالعزيز)، فقد كان رحمه الله أمام مفترق طرق وهي تصور ما كان يقوله الملك عبد العزيز لوالده أثناء وجودهما بدولة الكويت الشقيقة، وكما رواه الزركلي في كتابه شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز حينما قال: (إما أن تأمر أحد رجالك بانتزاع رأسي من بين كتفي فأستريح من هذه الحياة وإما أن تنهض من توك فلا تخرج من منزل شيخ الكويت إلا بوعد في تسهيل خروجي للقتال في بطن نجد)، كما كانت تلك الليلة فرصة ثمينة لعبد العزيز طالما انتظرها بفارغ الصبر؛ حيث جهز رجاله وحينما دخل نخلاً في شرقيها مما يلي نخل (العود) كما حقق ذلك ابن خميس عند الساعة التاسعة من مساء 4 شوال أبقى 33 رجلاً في هذا المكان بقيادة أخيه محمد وقال لهم - كما يروي الزركلي بكتابه آنف الذكر: (لا حول ولا قوة إلا بالله إذا لم يصل إليكم رسول منا غداً فأسرعوا بالنجاة واعلموا بأننا قد استشهدنا في سبيل الله).
فقد ظل الملك عبد العزيز يطلب من والده السماح له بالرحيل لاسترداد الرياض، ونقلاً عن المؤرخ الزركلي كما أسلفنا : إنه لقي أباه الإمام عبد الرحمن ساعة على انفراد خارج المدينة، فأراد الحديث معه لكن والده تشاغل عن طرح هذا الموضوع، فأصر عبد العزيز وفرش عباءته على الأرض ليطلب من والده الجلوس، وما أن جلس والده إلاّ وقال عبدالعزيز (يا والدي أنت بين خطتين، إما أن تأمر أحد عبيدك بانتزاع رأسي من بين كتفي فأستريح من هذه الحياة، وإما أن تنهض من توك فلا تخرج من منزل شيخ الكويت إلاّ بوعد في تسهيل خروجي للقتال في بطن نجد)، ووافق الإمام عبدالرحمن، متململاً بعد تصميم عبدالعزيز، وقال له (ليس لي قصد في أن أقف في سبيل إقدامك، ولكن كما ترى موقفنا وحالنا يقضيان باستعمال الحكمة في إدارة أمرنا، أما وقد عزمت، فأسال الله لك العون والظفر).
مضى عبد العزيز في أربعين راكباً من آل سعود والموالين لهم، ونحو العشرين من أتباعهم، وتوجهوا جميعاً إلى واحة يبرين على مشارف شمال الربع الخالي، وهناك وضع عبد العزيز خطة لدخول الرياض واستعادة المُلك، على الرغم من وصول كتاب من والده يدعوه للعودة بعد أن تفرّق عنه عدد كبير ممن التحق به مؤخراً.
جَمع عبد العزيز رجاله وكان جلّهم ممن خرج معه من الكويت وقرأ عليهم كتاب أبيه، ثم قال: (لا أزيدكم علماً بما نحن فيه وهذا كتاب والدي يدعوننا للعودة إلى الكويت، قرأته عليكم ومبارك ينصحنا بالعودة، أنتم أحرار فيما تختارونه لأنفسكم، أما أنا فلن أُعرّض نفسي لأكون موضع السخرية في أزقة الكويت، ومن أراد الراحة ولقاء أهله والنوم والشبع فإلى يساري.. إلى يساري)، وتواثب الأربعون بل الستون إلى يمينه، وأدركتهم عزة الأنفة فاستلّوا سيوفهم وصاحوا مُقسمين على أن يصحبوه إلى النهاية، والتفت عبد العزيز إلى رسول أبيه وهو حاضر يشهد وقال له: (سلّم على الإمام وخبره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا وقل له: موعدنا إن شاء الله في الرياض).
انقسم الرجال ممن رافقوا الملك عبد العزيز لفتح الرياض إلى مجموعات ثلاث، أحدها بقيت بالقرب من جبل يسمى (أبو غارب) للاستعانة بهم عند الحاجة إليهم، ويحموا الطريق الموصل للرياض، أما الثانية وهي بقيادة الأمير محمد بن عبد الرحمن الفيصل؛ شقيق الملك عبد العزيز وقوامها 33 رجلاً مقاتلاً فقد كمنت بموقع قرب الرياض وذلك لتأمين الاتصال، أما المجموعة الثالثة فهي التي دخلت الرياض وقادها الملك عبد العزيز بنفسه وكان التخطيط يقضي بأن تكون هذه المجموعة الفدائية بأقل عدد من الرجال لتجنب لفت الانتباه والأنظار إليها، وحققت هذه المجموعة بفضل الله ما أرادت تحقيقه بتلك الليلة الحاسمة بتاريخ الدولة السعودية وحيات مؤسس وموحد المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، فكان أن قتل ابن عجلان حاكم الرياض ورجال حاميته، ونودي بالرياض أن الحكم لله ثم لعبد العزيز بن سعود، فيما عدت هذه الملحمة الخطوة الأولى نحو قيام الدولة السعودية الثالثة.
قصة الفتح بلسان الفاتح
نقلت كتب التاريخ عن الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود حديثه عن قصة فتح الرياض، إذ يقول:
أخذنا أرزاقنا وسرنا وسط الربع الخالي ولم يدر أحد عنا أين كنا فجلسنا شعبان بطوله إلى عشرين رمضان ثم سرنا إلى العارض كانت رواحلنا رديه ولم نرد (ابو جفان) الواقع على طريق الحسا الا ايام العيد فعيدنا رمضان عليه، سرنا منه ليلة ثالث شوال حتى صرنا قرب البلد وكان ابن رشيد هدم سور البلد والمحل الذي يقيم فيه الامير المنصوب من قبله يقع في قصر الإمام عبد الله بن فيصل هدمه ابن رشيد وأبقى فيه القلعة المسماة بالمصمك، وكانت لنا بيوت للعائلة أمام المصمك هدمها الرشيدي أيضا وعملوا حول بعضها سورا ثانيا وصار فيها بعض حرم للأمير وخدم، فإذا جاء الليل حاصروا في القلعة وعقيب طلوع الشمس يخرجون لحرمهم والى البلد فنحن مشينا حتى وصلنا محلا اسمه (ضلع الشقيب) يبعد عن البلد ساعة ونصف للرجلي، هنا تركنا رفاقنا وجيشنا ومشينا على ارجلنا الساعة السادسة ليلا وتركنا عشرين رجلا عند الجيش والاربعون مشينا لا نعلم مصيرنا ولم يكن بيننا وبين اهل البلد اي اتفاق، وبعد ان اقبلنا على البلاد ابقيت محمد اخي ومعه 33 رجلا من خويانا ومشينا ونحن سبعة رجال، انا وعبد العزيز بن جلوي وفهد بن عبد الله بن جلوي وناصر بن سعود ومعنا المعشوق وسبعان من خدامنا، وافتكرنا ماذا نعمل فوجدنا بيتا بجانب الحصن الذي فيه حرم منصوب ابن رشيد كان صاحب البيت يبيع البقر وهو رجل شايب اسمه جوير للآن حي، وكانت له بنات يعرفنني بسبب مجيئي الأول للرياض يوم الصريف كان واحد اسمه ابن مطرف يخدم عند رجاجيل بن رشيد في القصر، دقيت الباب فخرجت احدى البنتين والباب مصكوك وقالت: من انت قلت؟ انا ابن مطرف ارسلني الامير عجلان يريد من أبيك ان يشتري له باكر بقرتين واريد ان اقابل اباك، لما سمع ابوها الكلام خرج مرعوبا، فلما فتح الباب مسكته وقلت: اسكت يا خبيث، عرفتني الحريم وصحن (عمنا! عمنا) وقلت: بس، بس، مسكنا الحريم في الدار وقلت صكوا عليهم، أما والدهما فانه خاف وهرب من البيت ونحن نظنه محبوسا، فهرب واختبأ في ضلع البديعة والحريم ظللن في الغرفة محجوزات ورأينا بعد ذلك اننا ما يمكن نظهر من هذا البيت إلى بيت عجلان، ووجدنا انه يوجد بيت وراءه فيه حرمة وزوجها فقفزنا من هذا على البيت الثاني ووجدنا الحرمة نائمة مع زوجها لففناهما بالفراش وهما نائمان وأدخلناهما إلى دار وسكرناها وهددناهما بالذبح ان تكلما، (ارسلنا عبد العزيز وفهد بن جلوي إلى اخي محمد خارج الديرة وجاء محمد ورفاقه،خلنا البيت واسترحنا إلى ان تحققنا ان خبرنا لم يفتضح بعد، ابقيناهم اي محمد وخوياه في البيت ونحن الاخرين نصعد بعضا فوق البعض الآخر وحوَّلنا على بيت عجلان ونزلنا إلى داخله وكانت معنا شمعة فطفنا في البيت قبل ان نجيئ إلى محل نوم عجلان، مسكنا الخدم الذين فيه وحبسناهم في دار وصكينا عليهم ثم مشينا إلى محل نوم عجلان، وخلينا خمسة عند الباب وواحد معه الشمعة وانا دخلت وفي البندقية (فشكة) فلما اقبلت وجدت عجلان نائما مع زوجته فرفعت الغطاء وعندها تحققت لي خيبة ظني وانه ليس بعجلان والحرمة زوجة عجلان، وإنما هي واختها نائمتان معاً (اخذت الفشكة من البندقية واخرجتها ثم وكزت الحرمة فنهضت فلما رأتني صرخت من انت؟!
فقلت: (بس أنا عبد العزيز) أما هي فكانت تعرفني وابوها وعمها خدام لنا وهي من أهل الرياض فقالت: ماذا تريد؟ فقلت: أنا جيت ادور رجلك لأقتله قالت: (أما زوجي فلا ودي تقتله وأما ابن رشيد فودى تقتله ولكن كيف تقدر على زوجي؟ زوجي محصن في القصر ومعه 80 رجلا ويمكن لو اطلع عليك اخاف ما تقدرون تنجوا بأرواحكم وتخرجوا من البلاد)، تكلمت عليها وسألتها عن وقت خروج زوجها من الحصن، قالت: انه ما يخرج الا بعد ارتفاع الشمس بثلاثة ارماح (واخذناها وصكينا عليها مع الخدم ثم احدثنا فتحة بيننا وبين الدار التي فيها أخي محمد ودخلوا علينا وكان الليل عندئذ الساعة التاسعة والنصف والفجر يطلع على (11) فلما اجتمعنا في المحل استقرينا وأكلنا من تمر معنا ونمنا قليلا ثم صلينا الصبح وجلسنا نفكر ماذا نعمل؟ وقمنا وسألنا الحريم من الذي يفتح الباب للأمير إذا جاء؟ قالوا: فلانة، فعرفنا طولها فلبسنا رجلا منا لباس الحرمة التي تفتح الباب، وقلنا له استقم عند الباب فاذا دق عجلان افتح له ليدخل علينا، رتبنا هذا وصعدنا إلى فوق غرفة فيها فتحة تشوف باب القصر وبعد طلوع الشمس فتحوا باب القلعة وخرج الخدم على العادة إلى اهلهم لأنهم كما ذكر أصبحوا حذرين من يوم سطوتنا الأولى، ثم فتح باب القلعة واخرجوا خيلا لهم وربطوها في مكان واسع (لما رأينا باب القلعة مفتوحا نزلنا لأجل ان نركض للقلعة وندخل القصر بعد فتح الباب، بنزولنا خرج الامير ومعه قدر (10) رجاجيل قاصدا بيته الذي نحن فيه، وبعد خروجه اقفل البواب بابه وراح لأسفل القصر وترك الفتحة، نحن عند نزولنا ابقينا اربعة بوارديه، قلنا: إذا رأيتمونا؛ أطلقوا النار على الذين عند باب القصر فلما ركضنا كان عجلان واقفا عند الخيل، فالتفت الينا مع رفاقه ولكن هؤلاء الرفاق ما ثبتوا بل هربوا للقصر، وحينما وصلنا اليه كان الجميع دخلوا ما عدا الامير عجلان هو وحده، أما أنا فلم يكن معي غير بندقي وهو معه سيفه، رد لي السيف وهو يومئ لي بالسيف ووجه السيف ما هو طيب، غطيت وجهي وهجمت بالبندقية فثارت، وسمعت (طبجة) السيف في الارض يظهر ان البندق اصابت عجلان ولكنها لم تقض عليه فدخل من الفتحة ولكني مسكت رجله، فمسك بيديه من داخل ورجلاه بيدي، أما جماعته فقاموا يرموننا بالنار ويضربوننا بالحصى وضربني برجله على شاكلتي (خاصرتي) ضربة قوية، أنا يظهر غشيت من الضربة فأطلقت رجليه فدخل، بغيت أدخل فأبى على خوياي ثم دخل عبد الله بن جوي والنار تنصب عليه ثم دخل العشرة الآخرون فتحنا الباب على مصراعيه وجماعتنا ركضوا لا مدادنا وكنا أربعين والجماعة الذين أمامنا (80)، ذبحنا نصفهم ثم سقط من الجدار أربعة وتكسروا والباقون حاصروا في مربعة، ثم امناهم فنزلوا واما عجلان فذبحه بن جلوي، ثم جاءنا اهل البلاد فأمناهم، وسكنا يومنا وليلتنا ثم شرعنا في بناء السور (أركبنا ناصر بن سعود بالبشارة لمبارك ووالدي بالكويت).
الدارة توثق سيرة رجال الفتح
وإنفاذا لتوجيهات الأمير سلمان بن عبد العزيز (خادم الحرمين الشريفين)، رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز، فقد قامت الدارة بالعمل على توثيق أسماء الرجال الذين صحبوا الملك عبد العزيز في مسيرته المظفرة لاسترداد الرياض 1902 والتعريف بهم، ونظمت الدارة زيارات ميدانية لعدد من الأسر ذات العلاقة لجمع المعلومات اللازمة، ودراسة ومراجعة المصادر كافة التي ذكرت أسماء الرجال الذين رافقوا الملك عبد العزيز لدخول الرياض سنة 1319هـ، والتي تمثلت في عدد من المصادر المخطوطة والمطبوعة والشفهية، وفي الثاني والعشرين من شهر يناير من عام 1999م، وخلال احتفال المملكة العربية السعودية بمرور مائة عام على دخول الملك عبد العزيز الرياض وانطلاق تأسيس المملكة؛ وتكريما لهؤلاء الرجال الابطال ووفاء لما قاموا به من جهود تاريخية: وجه الراحل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، بتكريم هؤلاء الرواد الثلاثة والستين ومنحهم وساما خاصا باسم وسام الرواد يسلم لأسرهم (في هذه المناسبة المباركة التي تحتفل بها البلاد بمرور مائة عام على تأسيسها)، وفي ضوء ذلك عملت الدارة على إعداد سيرهم.