أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
فيعتري المملكة العربية السعودية عبقٌ لا نظير له في يومها الوطني، يتجلى بمزايا جعلته فريدًا عما عداه من الأيام الوطنية التي اعتادتها جل الدول؛ ذلك لأنه لم يكن استقلالاً ضد مستعمر، ولا شقًا لعصا طاعة حاكم، بل توحيدًا لأطياف متجانسة في ظلِّ راية واحدة ودين واحد ولغة واحدة. ذلك اليوم الذي أعلن فيه جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- توحيد هذه البقاع من الجزيرة العربية.
هو مناسبة مميّزة ذات أثر عظيم في ذاكرة ووجدان أبناء هذا الوطن العظيم، هذا اليوم الّذي اكتملت فيه الوحدة، والتأمت فيه الفُرقة، وجمع فيه شتات هذا الوطن، هو يوم يشهد له التاريخ، فقد سجل في ذاك الوقت مولد المملكة العربية السعودية بعد ملحمة البطولة التي قادها المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- على مدى اثنين وثلاثين عاماً بعد استرداده لمدينة الرياض عاصمة ملك أجداده وآبائه في الخامس من شهر شوال عام 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م.
لقد كان ذلك اليوم، يوم أن استرد الملك المؤسس مدينة الرياض، محورًا فاصلاً سطَّر صفحة جديدة على وجه التاريخ المعاصر لجزيرة العرب، ظفر فيه هذا الوطن بخيرات ونعمٍ لا يعرف قدرها إلا من خَبِرَ تلك الحقبة التاريخية لذاك التاريخ المجيد، وأدرك الأحوال التي سادت جزيرة العرب حينها، وما اعتراها من بُعْدٍ عن منهج الله القويم، وتقويض لأصول الدين، وما فرق الناس من تشرذم وتناحر.
كانت البلاد العربية التي عرفها الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- في عام 1902م أرضًا لا تكاد تبشر بشيء. فقد ظلت زهاء أربعة قرون في ظلام يكاد يكون تامًا، اللهم إلا فترات قصيرة كانت البلاد تستجمع فيها قواها لتطفو على السطح من جديد. تلك الأيام التي كان فيها «الخليج العربي» والبحر الأحمر مركزًا للتجارة العالمية، الأيام التي كانت فيها الجزيرة العربية منبع الحضارة، ومصدر العرفان والثقافة.
وأصبحت البلاد العربية في حالة من الركود توحي بأنها ستكون حالة دائمة لا تبديل فيها، فرضها الغزاة والفاتحون. وكان رعاة الإبل وقطعان الماشية يتقاتلون على الدوام؛ طلبًا لأرض الرعي التي لم تكن كافية، وفي الفترات التي كانوا يكفُّون فيها عن الحرب، كانوا يتيهون في البيداء بغير حد سعيًا وراء المراعي، أو طلبًا للبقاع القليلة التي فيها من موارد الماء المحدودة ما يسمح بإنتاج حاصلات قليلة. وصفوة القول إنهم ما كانوا يعرفون شيئًا سوى العوز والكدح.
صحيح أن الحياة في المدن والقرى كانت خيرًا بعض الشيء، ولكنها كانت في حالات أخرى شديدة السوء. تلك كانت الأرض التي وجد المؤسس نفسه فيها سنة 1319هـ (1902م).
والآن، فلنقفز مع الأيام إلى حاضرنا الزاهر. أهذه هي الجزيرة العربية؟ أهي عينها تلك البلاد؟ إن الجواب عن هذا السؤال جواب مزدوج: نعم إنها هي الأرض بعينها. ولكنها الآن المملكة العربية السعودية. والفرق بين هذه وتلك؛ يمثل قصة رجل من أشد رجال هذا العصر عزمًا عن جدارة.
وقد يسجل المرءُ التاريخَ في فقرتين، غير أن تسجيل التاريخ عند الملك المؤسس كان يقتضي شجاعة لا تلين، وصبرًا لا ينفد، ورصيدًا من الحكمة لا يستنفد. كان حتمًا عليه أن يضع خطة استراتيجية حسنة الإعداد والتدبير، وكان عليه أن يرتضي نكسات وقتية واتفاقات لا يرحب بها حتى يستطيع أن يبلغ هدفه الأسمى. وكان عليه قبل كل شيء أن يعتصم بالإيمان.
فمنذ تلك اللحظة بزغ لهذه البلاد فجر جديد، لسان حاله ينطق ويتحدث عن نفسه، فقد قضى المؤسس -رحمه الله- على شتى صور الفوضى التي اعتاد عليها الناس في البوادي والحواضر من الغارات والسلب والنهب، كان ذلك دأبُهم وديدنهم، يسودهم الهلع والذعر حيث لا أمن ولا أمان، ولم ير المؤسس علاجًا ناجعًا لذلك إلا تطبيق أحكام الشريعة على أهل الحواضر والبوادي، كلهم سواء.
فحول كل ذلك إلى اجتماعٍ وألفة بين تلك القبائل المتناحرة، والتقت تلك القبائل واجتمعت على التوحيد والشرع المطهر، وما أعظمها من نعمة أن يكون الاحتكام إلى الإسلام، من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهما الأصل القويم في التنظيم والإدارة، حتى أصبحت هذه الدولة الإسلامية التي اتخذت القرآن الكريم دستورًا تستقي منه تعاليم الهدى، وتباشير الحياة، تلتزم بتعاليمه الربانية، وتحتكم إلى الشرع الحكيم أنموذجًا حيًّا، وشاهدًا واقعًا، ودليلاً قاطعًا على حفظ الله لهذه المملكة وتسديده وتوفيقه لولاة أمرها.
وطَّن الملك عبدالعزيز البادية، واتخذ من قوة الإسلام ومبادئه سبيلاً للاستقرار، فبث في القبائل الدعوة بإرسال الوعاظ هنا وهناك، فحثوهم على الاستقرار في أماكن المياه وبناء الهِجَر والمساجد، والعمل في الزراعة، بدلاً من الحياة المتنقلة غير المستقرة وأن يجتنبوا الحروب والتناحر.
ونالت طريقته الفوز واحتذاها المجتمع؛ فأخذوا يعودون بشغف وحماس إلى أحضان الشريعة الإسلامية، وانتشرت الهِجَر هنا وهناك حتى تجاوزت المائتين، لتتفجر في قلب الصحراء أعظم نهضة اجتماعية.
وذاع صيتُ المؤسس ولباسُ الأمن الذي ألبسه الجزيرة آنذاك، من العدل ومبادئ الإسلام.
وأعلن الملك عبدالعزيز توحيد المناطق كافة في دولة جديدة هي المملكة العربية السعودية، وتولى مهمة دمج أبناء شعبه في مملكة موحدة، وسَخَّر التقنية الحديثة لضمان تحقيق الرخاء، وفي الوقت الذي كان فيه معظم الوطن العربي يرزح تحت وطأة الاستعمار أصبحت المملكة العربية السعودية حصن الاستقلال العربي وقلب العالم الإسلامي، لقد كرَّس سلطته وقوته حتى آخر لحظة لخدمة دينه الإسلامي الحنيف.
ومع الأمن والنظام، تدفقت عوامل النهضة، فاستخدم الاتصالات لبناء لُحمة المملكة؛ لتقريب البعيد، فكان في قصر كل إمارة غرفة للاسلكي، فلم يكن المؤسس ينم حتى يُبْرِقَ لكل أمراء المناطق ليطمئن على رعيته.
وفجأة رأت المملكة العربية السعودية نفسها في أحضان تقنية حديثة لم تكن تعهدها من قبل، وعم ذلك البلاد، وحُرِص على الاستفادة من الاختراعات الجديدة كالسيارة وغيرها.
فالقيادة والريادة موهبة وعطاء من الله -جل وعلا-، يفيض به على من يشاء من عباده، فهي مراتب أعلاها أن تكون النعمة نعمة على الراعي والرعية، وهذا الذي أنعم الله به على هذه البلاد، فقد ألزم المؤسس وأبناؤه من بعده أنفسهم بأسس القيادة وعناصر نجاحها، وهي الإيمان بالله، والثقة به، والصدق والوفاء، والرحمة والحزم، وحصافة الرأي، وجعلوا ميزان حكمهم العدل، والإنصاف والقسطاس المستقيم، كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فأمنوا وأمنت رعيتهم وطابت نفوسهم، فطابت رعيتهم، وهنئوا لهنائها، لأنهم ألزموا أنفسهم بالإطار السليم للقيادة الحقة التي وردت في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرائد لا يكذب أهله».
كسى المؤسس -رحمه الله- رعيته بحسن رعايته، وجميل نعمته، فملك قلوب الناس، حتى أصبحوا سواعده في التشييد والبناء.. فقد جُبِلت النفوس على حب من أحسن إليها، فسبحان من يغير ولا يتغير.. سبحانه يؤتي الحكمة من يشاء من عباده.
تلك العبقرية الفذة، ذات الجوانب العديدة لشخصيته، هي التي لفتت أنظار الكُتَّاب والسياسيين، والرحالة -لاسيما الغربيين منهم- لأن يتجشموا المشاق، ويلاقوا المتاعب في أرض لم تكن بها من المغريات ما يفتح شهيتهم لتَحَمُّل ما تَحَمَّلوه، لكن هناك من البشر من سخَّروا أنفسهم لخدمة أهداف سامية، تنضح حضارةً.. قد تعترضهم المهالك، لكنها لا تحول بينهم وبين الوصول لأهدافهم.. وهؤلاء سمعوا عن الملك المؤسس فأقبلوا للتعرف عليه، على مقربة، وكتبوا ما شاهدوه، كتبوا عنه بما لم يكتبوا عن غيره من معاصريه.. مدحًا وثناءً.. كتبوا عنه في وقت مبكر.. وسجلوا أعماله لحظة بلحظة ويومًا بيوم.. ودوَّنوا ما دقَّ من أعماله وما كبر.. وما جلَّ منها وما صَغُر.. منذ اللحظة الأولى.. والفجر الأول الذي أشرقت شمسه حتى استوى البنيان شامخًا.
لقد نطقت صفحات التاريخ بأن ما صار هذا الرجل إلى ما صار إليه من الذروة إلا عن حق، وما تلألأ نجمه إلا عن جدارة، وما نال ما ناله من مراتب العلا إلا عن استحقاق، وما استحوذ على إعجاب الكثيرين من ذوي الرأي والفكر والسياسة إلا عن صواب.
وضع الملك المؤسس أساسًا شامخًا، أظهر ملامح واضحة لهذه العبقرية الفذة، في وقت مبكر كانت على موعد مع فجر أول يوم لاسترداد الرياض، ثم أشرقت شمسه على الوجود، فأرغمت الأنظار على الالتفات إليه، والتاريخ على التسجيل.
واستطاع الملك المؤسس -رحمه الله- أن يبني أعظم وحدة رغم ما كان يواجه العالم العربي والإسلامي من تهديدات، فأينعت ثمار تلك الوحدة لتكون أمناً وارفاً، وعيشاً رغيدًا، وألفة واجتماعاً، وكياناً عظيماً، غالبته الصحراء فغلبها.. وحولها إلى مزارع يانعة.. تؤتي أكلها كل حين، وصارعته صعوبة العيش فتغلب عليها.. واستبدل ترحالها استقرارًا .. وتشاحُنَها محبةً وألفة.. بما لم يسبق له مثيل في التاريخ الاجتماعي.. أصبحت المملكة العربية السعودية مهوىً للأفئدة بجهود متواصلة، وأعمالٍ دؤوبة، كان جَنَاها خدمة للدين والوطن الآمن.
وصارت هذه البلاد بتلك الجهود، درة الصحراء، وعروسها تجلت في أبهى صورها. فما أجملها، وهي تفوح بعبق العز والمجد التالد، وتتزين برونق الحضارة والتحديث، وتزدهي في موكب التحضر، تتباهى على غيرها وعلى صدرها البض أكثر من عشرة عقود من الزمن مضت منذ ذلك الفجر الأول، ولقائِها المشهود مع صقر الصحراء، وفارس فرسانها، ماذا كانت يومها؟!! ومن ذا الذي رعاها حتى أبهجها وأبهاها؟!! إن ما صارت إليه لَيَحوي أصدق برهان على حسن الرعاية، وأمانة اليد التي تولتها بالعناية والنمو والتشييد، الذي فاق تقديرات المخططين، وخبراء التشييد والعمران.
ولا يجول بخواطرنا أن المقصود بهذا اليوم حدث تاريخي مجرد، أو جملة من الأحداث والتفاصيل التاريخية نرويها، بل هو استذكار لنعمة الوحدة والألفة تلك النعمة الجليلة التي أُسبغت على وطننا الغالي في عصرنا هذا، ونهوضه على نهج الكتاب والسنة، ونصرة الإسلام وأهله، ورفع راية التوحيد خفَّاقة، وعقيدة صافية نقية، والذَّبِ عنها وصيانتها من الانحراف والخلل، لنأخذ بها ناصعةً على محَجَّتها البيضاء ليلها كنهارها، كما أنزلت على رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-؛ فذاك هو الأساس المتين والركن الحصين الذي انبنت عليه أسس هذه الدولة السعودية بأدوارها كافة، منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى، وذلك حينما وقعت المبايعة التاريخية من الإمام محمد بن سعود بمناصرة الدعوة الإصلاحية التي قامت دعائمها على هذا الأساس المتين، أساس دعوة رسل الله -صلوات الله عليهم-، وظلت هذه الدولة قائمة على أصولها حتى يومنا هذا، في هذا العهد المبارك الذي يرعاه ملك كريم، صاحب الحزم والعزم، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -حفظه الله-، ذو الشخصية القيادية المؤثرة، الذي زرع محبته في القلوب، بما أعطاه الله من مواهب، وميَّزه بالفضائل، الذي ارتقى في مراحل عمره في مدرسة الملك المؤسس الإمام الصالح عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- لينهل من تلك التجربة الناضجة، والشخصية الفريدة التي أجرى الله على يديها أعظم التحولات التاريخية في هذا الوطن الإسلامي المبارك.
ولما للمملكة العربية السعودية من عظيم المكانة في قلوب المسلمين، باعتبارها مهبطًا للوحي، وقبلةً للمسلمين ومهوىً لأفئدتهم، ومقصدهم في حجهم وعمراتهم، فقد أولى الملك المؤسس عظيم جهده خدمةً للحرمين الشريفين، فكانت درة الأعمال الجليلة التي اضطلعت بها المملكة خدمةً للإسلام والمسلمين وعقدًا من اللآلئ التي ترصع بها التاريخ الإسلامي على مر العصور.
فقد جعلهما المؤسس على قائمة اهتماماته الكبرى، وكانت الأولوية لاستعادة الأمن والنظام في الحجاز انطلاقًا من إيمانه العميق أن تلك أمانة تشرفت بها المملكة العربية السعودية فتحملت مسؤولياتها حتى وفقه الله تعالى وأبناءه من بعده للإنفاق على هذا العمل الجليل أداءً للواجب واضطلاعًا بالمسؤولية دونما انتظار شكر أو ثناء، وإنما رجاء المثوبة والأجر من الله سبحانه وتعالى وتسهيلاً لأداء المسلمين مناسكهم، وتوفير الأمن والطمأنينة لهم.
وليس لأحد أن يزايد على أن العناية ببيت الله الحرام والمشاعر المقدسة، والمسجد النبوي الشريف، والاهتمام ببيوت الله داخل البلاد وخارجها، والحرص على تشييدها وتوسعتها وصيانتها وإعمارها وتهيئتها للعبادة، ذلك كله يعد من صميم رسالة ملوك هذا البلد المعطاء، بداية من عهد المؤسس، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-.
وسيظل التاريخ دومًا خير شاهد على ما كان يؤكده المؤسس -يرحمه الله-، فالكل يدرك أنه بذل كل ما كان يملك من جهد في سبيل تيسير الحج على المسلمين وتأمين سبله، وقد كان انعدام الأمن من قبل يهدد موسم الحج فيتعرض الحجيج للنهب والسلب، ولم يكن الحج فريضة على المسلمين فحسب وإنما كان أيضًا في الماضي عماد اقتصاد الحجاز، فأحل الملك عبدالعزيز على ربوعه الأمن والطمأنينة؛ فحمى طرق الحج وأخذ على أيدي المخالفين بلا هوادة، وتوافد الحجاج وتضاعفت أعدادهم، حتى أصبح الناس من أهل بلاده وضيوفها من حجاج وعمار وزوار، يتنقلون عبرها من أقصاها إلى أدناها، لا يخشون إلا الله، فكان تحقيق الأمن والاستقرار وتأمين سلامة الحجاج والمعتمرين وزوار الحرمين الشريفين وتيسير سبل الوصول إليهما من كل فج عميق، من أهم الإنجازات التي حققها الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، إذ كانت رحلة الحج قبل عهده الميمون محفوفة بالمخاطر ومليئة بالرعب، ولم يكن الحاج يأمن فيها على نفسه وماله.
ومن حيث توسعة الحرمين الشريفين، فقد اهتم الملك المؤسس وأبناؤه من بعده بخدمتهما وقاموا على رعايتهما وتوسعتهما، إذ بدأها الملك عبدالعزيز عام 1344هـ بتوطين مصنع كسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة. وأخذت مشروعات التوسعة السعودية للحرمين الشريفين بعد تأسيس المملكة مباشرة، ففي عام 1354هـ أمر الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- بعمل ترميمات وتحسينات شاملة للمسجد الحرام، وفي عام 1368هـ أعلن عن توسعة المسجد النبوي الشريف، بعد أن ضاق بالمصلين، فأضاف إليه مساحة شاسعة، وفي مستهل عام 1373هـ أُدخلت الكهرباء وأضيء كامل المسجد الحرام، ووُضعت فيه المراوح الكهربائية، واستمرت عملية توسعة وتطوير المسجد الحرام، حتى شهد المسجد الحرام والمسجد النبوي توسعة عملاقة فاقت كل التصورات والتقديرات، ولم يشهد التاريخ لها مثيلاً، والتي ما زالت تجري برعاية جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله ورعاه-، حتى بلغت مساحة المسجد الحرام 750.000 متر مربع، لتستوعب مليوني مصل في مواسم الحج والعمرة ورمضان، واستمرت كذلك توسعة المسجد النبوي الشريف في مشروع يعد من أكبر المنجزات للمسجد النبوي الشريف.
ولم تقتصر العناية في هذا الصدد على المسجدين فحسب بل كانت أكبر توسعة للمسعى لتتضاعف مساحته أربعة أضعاف، ومشروع جسر الجمرات الذي أنجز بكفاءة أذهلت العالم، ويعد آية في روعة وضخامة الإنجاز ومصدر فخر لجميع المسلمين وإنجازًا استثنائيًّا في إدارة الحشود، وتتوالى الإنجازات الكبرى لهذا الوطن المجيد في خدمة حجاج بيت الله الحرام بمشروع يعد ضمن أسرع وأضخم عمليات التفويج عالميًّا، وهو قطار المشاعر، لتنتهي بذلك معاناة تنقلات الحجاج في منى وعرفات ومزدلفة.
ومواصلة لذاك الجهد العظيم وسيرًا على تلك المسيرة، تستمر الإنجازات في هذا العهد الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- ليتواصل الاهتمام والمتابعة الدؤوبة منه -أيده الله- لتذليل العقبات كافة في سبيل عمارتهما وسهولة الوصول إليهما وتوسعتهما، لتشمل خمسة مشروعات ضمن التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام بمكة المكرمة، تشمل مبنى التوسعة والساحات والأنفاق ومبنى الخدمات والطريق الدائري الأول، لتشمل هذه التوسعة التاريخية بإجمالي المسطحات لكامل المشروع 1.470.000 متر مربع ومشروع «مترو مكة المكرمة» استكمالاً لمشروع قطار المشاعر المقدسة وقطار الحرمين، بالإضافة إلى ذلك، وتعزيز منظومة شبكة النقل من أجل تسهيل الوصول إلى الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وتمكين ضيوف الرحمن من أداء فريضة الحج والعمرة والزيارة بكل يسر وسهولة، ويشهد هذه المنجزات القاصي والداني، لتعكس الرغبة الأكيدة والملحة من ولاة الأمر في خدمة المسلمين ليؤدوا مناسكهم بكل يسر وسهولة، لترتفع أكف الضراعة داعية لولاة الأمر القائمين على ذلك، وقد ضُخَّت فيها من المليارات بما لا يدخل تحت حساب ولا تضبطه أقلام الكُتَّاب، فجزاهم الله خيرًا وأجزل لهم المثوبة.
وتأتي رؤية 2030 في العهد الزاهر عهد الملك سلمان -حفظه الله ورعاه- لتقدم آمالاً عُظمى لا نظير لها في خدمة الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن، فقد وعدت بتمكين ما يزيد على (15) مليون مسلم من أداء العمرة سنوياً بحلول عام (1442هـ- 2020م) وتسهيل أمورهم دخولاً وخروجًا، فمما ورد فيها قوله: «وسنعمل على تمكين ما يزيد على (15) مليون مسلم من أداء العمرة سنوياً بحلول عام (1442هـ- 2020م)، مع التأكيد على أن تكون نسبة رضاهم عن الخدمات التي تقدّم لهم عالية، سنسعى إلى تحقيق ذلك من خلال تسهيل إجراءات طلب التأشيرات وإصدارها وصولاً إلى أتممتها وتطوير الخدمات الإلكترونية المتعلقة برحلة المعتمرين، وتمكينهم من إثراء رحلتهم الدينية وتجربتهم الثقافية، وسيكون للقطاعين العام والخاص دور كبير في تحسين الخدمات المقدمة للمعتمرين ومنها الإقامة والضيافة وتوسيع نطاق الخدمات المتوافرة لهم ولعائلاتهم ليستمتعوا برحلة متكاملة، ومن ذلك توفير معلومات شاملة ومتكاملة من خلال التطبيقات الذكية للتيسير عليهم وتسهيل حصولهم على المعلومة».
كما جاءت رؤية 2030 التي قدمها الملك سلمان -حفظه الله ورعاه- في سبيل ازدهار هذا الوطن الكريم لتعد بما هو أبعد من ذلك كله؛ فبحلول عام 2030 ستكون «زيادة الطاقة الاستيعابية لاستقبال ضيوف الرحمن المعتمرين من 8 ملايين إلى 30 مليون معتمر» وهو ما لم يحدث في تاريخ الحرمين الشريفين من قبل.
وإعلان المملكة العربية السعودية عن الخطوة التاريخية التي ستغير وجه الوطن وتجعله في مصاف الدول المتقدمة «رؤية 2030» التي أطلقها ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله ورعاه-، والتي اشتملت في مجملها على طرح 5 في المائة من أسهم أرامكو السعودية للاكتتاب العام، وسيتم الاستفادة من عائداتها على تمويل صندوق استثمارات ضخم وتحويل صندوق الاستثمارات العامة إلى صندوق سيادي، وستؤسس الرؤية للحد من اعتماد الإيرادات على العائدات النفطية، إضافة إلى تشجيع القطاع الخاص للقيام بدوره المنوط به إقليمياً ودولياً، وتسعى إلى تحقيق الشفافية ومحاربة الفساد، وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المستدامة شيئًا فشيئًا بدلاً من النفط، وبرنامج التحول الوطني 2020 الذي يهدف إلى توفير 450 ألف وظيفة في القطاع الخاص، وزيادة صادرات السلع غير النفطية، وزيادة حصة القطاع الخاص الصحي من الإنفاق من خلال طرح طرق التمويل البديلة، وكذلك إطلاق المجمع الملكي للفنون، الذي سيكون الأكبر في المنطقة برمتها، وهذا البرنامج الهادف يسعى إلى تحقيق قيمة عظمى للاقتصاد الوطني، والاستثمار في الطاقة المتجددة ببرامج مستقبلية طموحة.
وقد حظيت هذه المبادرات بإعجاب المواطنين، واستحوذت بثناء الدول والشعوب، لأهدافها ذات المدى البعيد، التي تسعى لتحول عظيم في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وسيكون لها الأثر العظيم في الرقي والتقدم -إن شاء الله تعالى-.
إن اليوم الوطني يوم عظيم يجب علينا أن نتذكر فيه ما نذخر به من نعم عظمى، من العقيدة الصافية التي هي من أهم أسباب النصر والتمكين، وما نتج عن ذلك كله من آلاء عظيمة أسبغها الله على هذا الوطن ونعم متجددة متوالية لا تنفد، وأمن وأمان وبُعْدٍ عما تموج به البلاد من فتن كقطع الليل المظلم، وقيادة حكيمة تسير على خطى المؤسس، وتتخذ من التطور والارتقاء منهجًا أثمر بما نحن فيه من رغد العيش، وسعة في الرزق، وقوة في العلاقات الخارجية من الدول العربية والإسلامية والأجنبية، كل ذلك برهان قوة وتقدم وازدهار لهذا الوطن العظيم برعاية ملك حكيم؛ بما مكَّن الله له من تحصين وطننا من الإرهاب الغاشم فأيده الله بنصره، برفع راية التوحيد، وتطبيق شرع الله القويم، وذلك جدير بأن يذكره أبناء هذا البلد جيلاً بعد جيل، لإبداء مآثر ولاة أمورنا الذين أرسل الله على أيديهم ما تذخر به هذه البلاد من نعم وفيرة.
ومناسبة اليوم الوطني تعد فرصة عظيمة لأن نحاسب أنفسنا على ألا نغفل عن تلك الأسس والأصول والثوابت التي بُنيت عليها المملكة العربية السعودية، وأن نربي صغارنا عليها ونُشْرِبُهُم إياها، تلك الأسس والثوابت التي تصونهم عن الانحراف وتقودهم إلى المنهج القويم، بانتمائهم لوطنهم ومحبته، وشعورهم بنعم الله على هذا الوطن، ونشعرهم بواجبهم نحو مقومات المواطنة الحقة التي هي حفاظ على الثوابت التي ارتقت بها البلاد، حتى يتنامى لديهم ذلك الشعور، ويتآزر بما حبا الله هذا الوطن بوفير الخيرات وعظيم الثروات، التي تستوجب شكر الله وحمده عليها، لتكون هذه التنشئة درعًا واقيًا يصونهم من الفتن، والاستجابة لدعاة السوء والفرقة والاختلاف.
وبعد، فتلك هي أقوى دلالات ذلك اليوم التاريخي العظيم، وما يجب علينا نحوه، وأن نجعل تلك النعم الوارفة نصب أعيننا، حتى نستأصل شأفة كل قاصد سوء، وألا نغفل عن شكر الله تعالى على ما نحن فيه ليبقى ويزيد وهو القائل {لئن شكرتم لأزيدنكم}، ولتكون تلك المعالم درعًا يقينا ويقي أجيالنا من البعد عن الجادة والزيغ عن المنهج القويم.
وختاما فأشكر الله -جل وعلا- على ما أسبغ علينا من نِعم وفيرة متواصلة متوالية، إنه جدير بالحمد والثناء، وأُتْبِعُهُ بشكر من جعلهم الله سببا في بقاء تلك النعم وتواصلها، وأرفع وافر تهنئاتي ومباركاتي ببالغ الامتنان، لمقام مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظهما الله ذخرًا للإسلام والمسلمين، ولهذا الوطن الغالي، وأدام عليهما نعمه، وأسبغ عليهما فضله، وأتم عليهما آلاءه، ولأبناء وطني الحبيب-.
واللهَ أسألُ أن يبارك لنا هذه النعم, ويحفظها من أن تزول، ويقينا شرَّ النِّقم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.