عبدالعزيز السماري
عندما نتناول مسألة حاجة الإنسان للعمل، فلا يعني ذلك سد حاجته من الجوع والفقر، ولكن يعني الخوض في اتجاه حضاري مختلف عن مسار الجهل أو الجدل الهادم للعقول كلما تقدم تأهيله خطوات إلى الأمام، فالعمل المنتج أكثر من مجرد ساعات يقضيها المرء في المكتب أو المصنع، ولكن فلسفة عميقة ولها تأثيرات جذرية في عقول البشر.
عندما يتم تقييم حالة البطالة فإنها أيضًا لا تعني دخل الفرد، ولكنها تعني معاني أشمل بكثير من ذلك، حيث تدخل الفئات التي تجني المال بلا عمل في التعريف من أوسع أبوابه، والخطورة أن يتحول المال إلى طاقة لإذكاء متلازمة الأيدولوجيا والجدل أو ثقافة الصراع في المجتمع، وبالتالي يتحولون إلى بذور للفوضى في المجتمعات غير المتطورة.
بينما تؤسس بيئة العمل التنافسية والمنتجة عقولاً أكثر ميلاً للسلم، وأقل صخبًا في الحياة، وكلما كان الأفراد في المجتمع يعملون في جامعات ومستشفيات أو مؤسسات ومصانع أو شركات كبرى منتجة كان المجتمع أكثر هدوءًا وأكثر ميلاً للسلم الاجتماعي.
المجتمعات تدخل في مرحلة مخاض الفوضى عندما تكون أصوات الجدل الصوت الأعلي، عندها يصبح المجتمع في حالة صراخ دائم، وقد كان ذلك سمة من سمات الدولة في القرون الوسطى، التي قامت على فلسفة الحرب والتجنيد والعنف اللفظي والبدني.
كان الجدل الديني - الديني العنوان الأبرز في تاريخ الدولة الشرقية، وكان الاستثمار في التعليم الديني، يهدف إلى إنتاج عقول مبرمجة على حالة الصراع، وعندما أتناول المنطق الديني فلا يعني ذلك منهج الدين الحنيف، ولكن أعني بذلك ذهنية الجدل أيا كانت على طريقة المسلمات الدينية، التي لا تعتمد على منطق ما، ولكن على إما أن تكون معي أو ضدي..
من خلال هذه المقدمة يبرز مصطلح حكومة تكنوقراط في العصر الجديد، باعتبارها شكلاً من أشكال الحكومة في العالم، وتعني حرفيًا حكومة التقنية، ويقال حكومة الكفاءات، والحكومة التكنوقراطية عادة تتشكل من الطبقة العلمية الفنية المثقفة، وهي حكومة مصدرها ثقافة العمل والإنتاج، ومتخصصة في الاقتصاد والصناعة والتجارة، وغالبًا تكون غير حزبية فهي لا تهتم كثيرًا بالفكر الحزبي والجدل الديني أو السياسي.
يوجد التكنوقراط في الدرجات السلفي في المجتمعات العربية، مصابين بالكآبة في ظل الصخب والجدل الدائر بين العقول المتأزمة، ولهذا الأسباب تحولت حلول أزمات البطالة وتدني ثقافة العمل إلى حاجات ثانوية في المجتمع، وأصبحت ثقافة الصراع مع قوى الشر هي الهدف الرئيس، وتم تجنيد مختلف الفئات في المجتمع لخدمة هذا الهدف الفوضوي..
ما حدث في كوريا الجنوبية والصين واليابان كان انتصارًا مدويًا لفلسفة العمل ضد ثقافة المحارب المقاتل، وتم تطويع برامج التنمية لمهمة تطوير عقل الإنسان نحو العمل والإنتاج بدلاً من ثقافة الحرب والغزو والجدل العقيم، وكانت النتيجة باهرة، فالمنتجات والاقتصاد الآسيوي تجتاح العالم، وقام المنهج على تجاوز ثقافة الصراع ليس من خلال المواجهات المباشرة، ولكن عبر تجاوزها من خلال تحويل الأفراد إلى طاقات متفجرة في بيئة العمل.
كذلك نجحت دول أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة في إقصاء العقل الجدلي الذي يقوم على نظرية العداء، والاعتماد على التكنوقراط في إعادة تأهيل المجتمع، ويبدو أنهم في طريقهم للخروج من الأزمة الجدلية إلى إعادة برمجة العقل على فلسفة العمل والابتكار والإنجاز.
بينما ما يزال الواقع العربي يعيد إنتاج ثقافة الصراع، ويقدم فصولاً في غاية الرعب، فالتكنوقراط غائبون عن المشهد، والساحة تزدحم بأيدولوجيات الصراع، ومن علامتها أن يتم الفصل والحكم في ثقافة الصراع بين مؤيد ومعادٍ، بينما لا يؤدي هذا المنهج إلا للهلاك، وخطورته تكمن في تجنيد شباب الأوطان في هذا النهج، وبالتالي الخروج من ذهنية العمل والإنجاز إلى الجحيم..
لعل أهم مثال عربي على خطورة هذا النهج، كانت حالة العراق عندما استلمها الرئيس الراحل صدام حسين في نهاية السبعينيات الميلادية، فقد كان العراق وقتها مثالاً عربياً جيداً على النجاح في التعليم والتدريب ومكافحة الأمية، لكن تلك المنجزات انهارت عندما بدأ الرئيس يستثمر في ثقافة الحروب والصراع، فهرب فئات التكنوقراط، وكانت النتيجة خراب وهلاك ودمار للبلد العربي الشقيق.
الوطن ليس أيدولوجيا، ولكن مشروع وطني يشترك في بنائه الجميع، ويقوم على فلسفة العمل والإنجاز، وكلما كانت ذهنية الفرد همها الأول العمل المنتج وتحقيق الإنجاز كان الوطن أقرب إلى حالة السلم والأمن الاجتماعي، وفي مسار الطريق الأسرع نحو المستقبل الباهر..