محمد آل الشيخ
حينما كانت مهمتها إذاعية صوتية فقط، كان القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أقرب إلى الاستقلالية والموضوعية وعدم الانحياز إلى درجة مثيرة للإعجاب؛ وقتها كان العرب العاملون في تلك المنشأة الإعلامية العريقة ينحصر عملهم فقط في المراسلات الإخبارية والترجمة والتصحيح اللغوي وإلقاء المادة الإذاعية؛ بينما يقوم الموظفون الإنجليز ببقية المهام الإعلامية الأخرى، وبالذات استقلالية توجهها الإعلامي، واختيار المادة، وكيفية التطرق لها، والحرص على أن لا يكون لها توجهًا دعائيًا أو أيديولوجيًا. ومن هم بعمري يتذكرون جيدًا الصدقية الرفيعة التي كانت تحظى بها تلك الإذاعة لدى الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط آنذاك، حتى شاع بين الشعوب العربية قول يحمل كثيرًا من الحقيقة النسبية، مؤداه أن العرب يختلفون في كل شيء، لكنهم يتفقون على أمرين اثنين فقط، هما فن أم كلثوم الرفيع وصدقية (هنا لندن)!
وبعد دخول الفضائيات والأقمار الصناعية إلى ساحة الإعلام بقوة، واكبت البي بي سي هذا التطور، وأصبحت تبث أيضًا عبر الأقمار الفضائية، إذاعيًا وتلفزيونيًا؛ غير أن من يقارن بثها التلفزيوني اليوم، بقوتها من حيث تحري الصدقية والاستقلالية، ومهنية المادة الإعلامية التي تبثها تلك القناة، بصدقيتها أيام البث الإذاعي الناطق بالعربية، سيجد أن البون شاسع، فلم تعد هيئة الإذاعة البريطانية، خاصة القسم التلفزيوني منها، بقوتها الحيادية أيام ما كانت مسموعة في الأيام الخوالي.
طرحتُ رأيي هذا على أحد الأصدقاء العرب العاملين الآن في البي بي سي، ففوجئت بأنه وافقني، فقد كان الرعيل الأول من العرب العاملين في تلك القناة، يُدافعون عنها وعن تحريها للصدقية باستماتة، ويصرون على أنها مستقلة تمامًا عن تأثير الحكومة البريطانية، ولا يجرؤ رئيس أية حكومة على أن يتدخل فيما تبثه (هنا لندن) من أعمال إعلامية، سواء كانت أخبارًا أو تغطيات اجتماعية أوثقافية أو اقتصادية أو سياسية؛ وكنا حينئذ نضرب بالعاملين في البي بي سي مثالاً على الولاء الوظيفي؛ الأمر الذي أثار استغرابي عندما وافقني صديقي هذا على ما أقول. ثم أضاف مبررا: كان القسم العربي في تلك الهيئة في الماضي يديره الانجليز ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة بمهنية، غير أن بني يعرب ألحوا لإعطائهم الفرصة في المناصب الإدارية التنفيذية، ورئاسة الأقسام، منطلقين من أن (أهل مكة أدرى بشعابها). وهذا ما حصل، والعربي المهاجر إلى الغرب -كما هو ثابت- لا يستطيع أن يتخلى عن ثقافته التي ورثها في موطنه الأصلي، وبالذات مواقفه الأيديولوجية المُسبقة، فتسربت إلى تلك القناة الأوبئة العربية، والصراعات الأيديولوجية والتحزبات السياسية، فضلا عن أن بعض المؤثرين في المواد الإعلامية، يُشاع بأنهم يبيعون ويشترون في توجهات بعض برامج القناة، بطريقة تفقدها الصدقية والاستقلالية؛ فمثلا خلال أزمتنا مع قطر أغدق القطريون بسخاء -كما يقال- على بعض المذيعين والمحاورين، حتى أصبح بعض المذيعين ومعهم المعدون والمحاورون يُنفذ توجهات وسياسات النظام القطري، فحولوا البي بي سي في أحيان كثيرة نسخة مماثلة عن قناة الجزيرة القطرية.
وأنا هنا لا أطلق الاتهامات جزافا، وإنما أي متابع لقناة البي بي سي العربية هذه الأيام، سيلحظ بوضوح أنها تدور بين محورين: محور يساري النزعة، أما المحور الآخر فتكاد رائحة الرشاوي القطرية تزكم الأنوف. والسؤال هل يدرك ذلك المسؤولون البريطانيون في الإدارة العليا لهيئة الإذاعة البريطانية؟.. هذا ما لا أستطيع أن أعرفه.
إلى اللقاء