سعد بن عبدالقادر القويعي
سأبدأ من حيث أشار إليه الأمر السامي، باعتماد تطبيق أحكام نظام المرور، ولائحته التنفيذية -بما فيها إصدار رخص القيادة- على الذكور، والإناث -على حد سواء-، حول ما رآه أغلبية أعضاء هيئة كبار العلماء بشأن قيادة المرأة للمركبة، من أن الحكم الشرعي في ذلك هو من حيث الأصل الإباحة، وأن مرئيات من تحفظ عليه تنصب على اعتبارات تتعلق بسد الذرائع المحتملة التي لا تصل ليقين، ولا غلبة ظن، وأنهم لا يرون مانعاً من السماح لها بقيادة المركبة في ظل إيجاد الضمانات - الشرعية والنظامية - اللازمة ؛ لتلافي تلك الذرائع، ولو كانت في نطاق الاحتمال المشكوك فيه ؛ ولكون الدولة هي - بعون الله - حارسة القيم الشرعية، فإنها تعتبر المحافظة عليها، ورعايتها في قائمة أولوياتها، - سواء - في هذا الأمر، أو غيره، ولن تتوانى في اتخاذ كل ما من شأنه الحفاظ على أمن المجتمع، وسلامته.
ذات مرة، لفت نظري حديث لمعالي وزير العدل السابق - الدكتور - محمد العيسى، حول موضوع باب سد الذرائع، فعندما سُئل عنه، قال: «هذا موضوع طويل جداً، ويمكن أن نختصر هذا القول، بأنه: إذا كانت الذريعة تفضي إلى المفسدة في جميع الأحوال، بشكل قاطع في الغالب الأعم، فإنها تسد بالإجماع، وإذا كانت تفضي إلى المفسدة - نادراً -، فإنها ملغاة بالإجماع، وإذا كانت الذريعة تفضي إلى المفسدة - غالباً -، فإن في هذا خلافاً بين أهل العلم، فالمالكية: هم من شدد في باب سد الذرائع، وكذلك يرى رأيهم الحنابلة، ويرى الحنفية، والشافعية: أن هذا الأمر يرجع إلى الاجتهاد، فيعاير المفتي، والحاكم المصلحة، وهي تختلف من ناحية عوائدها، ومن ناحية الاستشراف، ومن ناحية القرائن، والأحوال، فيقدر المصلحة». - ولا شك - أن ما ذكره معاليه ؛ هي من القواعد الكلية، التي تسهل على العلماء معرفة أحكام المسائل المستجدة على أرض الواقع، عن طريق ثبوتها باستقراء أدلة الكتاب، والسنة في جميع أبواب الشريعة - عقائد وعبادات ومعاملات -، وغير ذلك.
إن اعتبار هذه القاعدة بسدها، أو فتحها، لا يكون إلا بتوثيقها لمبدأ المصلحة. وهي وإن كانت من القواعد المختلف فيها، من جهة اعتبار -كونها- دليلا شرعيا، يصح بها التحليل، والتحريم، إلا أنه -وبالاستقراء- يتبين للعالم، أن موارد التحريم في نصوص الكتاب، والسنة، منها : ما هو محرم تحريم المقاصد، ومنها: ما هو محرم تحريم الوسائل .
من جانب آخر، فإنه لا يمكن أن نحقق المصالح، وندرأ المفاسد إلا بتحقيق أصل الذرائع، وإتقان إيجادها في كل ضرورة من الضرورات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، بحسب ما تقتضيه حال كل ضرورة . وهذا هو الأساس الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية ؛ لتحقيق مقاصدها من جلب المصالح، ودرأ المفاسد، وما كان خلاف ذلك، فإن الشرع لا يقر إفساد أحكامه، أو تعطيل مقاصده، - ولذا - فإن رجوع هذه القاعدة إلى أصل اعتبار المآل، الذي قامت الأدلة الشرعية على تأكيدها، كاف في اعتبارها، والتفريع عليها.
إن قاعدة «سد الذرائع»، قاعدة ثابتة في الشرع، والعقل. وهي من طرق الاستدلال التي تظافرت أدلة الشرع على تأييدها، وشواهدها في الشرع أكثر من أن تحصر، بشرط أن تتوافر فيه شروط العمل به . وعندما نؤصل على تفريع هذه القاعدة، فهذا يؤكد أن أهل الذكر الواعون بالوقائع، والمآلات، من الذين تحكمهم المصلحة العامة، هم من يحسنون الربط بين المتماثلات، والفرز بين المختلفات، والموازنة بين المصالح، والمفاسد عند التعارض، فإن كانت المفسدةُ أقوى، وجبَ درؤُها، وهذا ما يُسمَّى بـ«سدَّ الذرائع»، وإن كانت المصلحةُ أقوى، وجبَ اختيارُها، وهذا ما يُسمَّى بـ«فتح الذرائع»؛ لكن دون التوسع في سد الذرائع، حتى لا يؤدي هذا التوسع إلى إيقاع الأمة في الحرج .
إن جاز لي أن أختم بشيء، فهي الإشارة إلى إشادة هيئة كبار العلماء بالأمر السامي بإصدار رخص القيادة للرجال، والنساء - على حد سواء -، وذلك عبر حسابها الرسمي على «تويتر»، وفيه: «حفظ الله خادم الحرمين الشريفين - الملك - سلمان بن عبدالعزيز، الذي يتوخى مصلحة بلاده، وشعبه في ضوء ما تقرّره الشريعة الإسلامية»، - وبالتالي - فإن ما سبق يندرج في مفهوم السياسة الشرعية من حيث الممارسة العملية، بأن فيها توسعة على ولاة الأمور في أن يعملوا ما تقضـي به المصلحة، مما لا يخالف أصلاً من أصول الشرع المطهر، وإن لم يقم على كل تدبير دليل جزئي ؛ فالسياسة الشرعية إعمال خاضعة للاجتهاد، وتمكين للحاكم، وولي الأمر في أن يعمل بما غلب على ظنه أنه مصلحة من الأحكام .كما أن إبراز هذا العلم تأكيد على صلاحية هذه الشريعة لكل زمان، ومكان، واستيعابها لحاجات الناس، وقضاياهم المختلفة، - إضافة - إلى ضرورة إيجاد جيل يستطيع أن يرى في الأمور الحادثة، والمستجدة منفذا شرعيا مناسبا لأحوال الأمة، والتي تظهر بوضوح من مقتضى النظر، بدءا من المصدر، والأصول، وانتهاء بالمسائل، ودقائق الفروع.
** **
- باحث في السياسة الشرعية